مقاهي الثقافة بين سراج الدين و عصفور بقلم : د‏.‏قدري حفني

من طرف ادهم الخميس مارس 19, 2009 10:24 am

مقاهي الثقافة بين سراج الدين و عصفور
بقلم : د‏.‏قدري حفني

شاركت
أخيرا في مؤتمر الإصلاح العربي السادس الذي يحرص الصديق إسماعيل سراج
الدين علي أن تعقده مكتبة الاسكندرية سنويا‏,‏ بحيث يلتقي عدة مئات من
المثقفين العرب لمدة ثلاثة أيام‏.‏ والتزاما بتقاليد المؤتمرات‏,‏ فلابد
من جدول أعمال‏,‏ وقاعات تتصدرها منصات المتحدثين ليعرضوا بسرعة لملخصات
أوراقهم‏,‏ ليعلق عليها من يشاء من الحاضرين كل في دقائق معدودات‏.‏ ولكن
علي موائد الطعام‏,‏ وفيما بين الجلسات‏,‏ بل وأحيانا خلال انعقادها‏,‏
تمتليء ردهات المكتبة بمثقفين يتحاورون حول شتي هموم الوطن ما كبر منها
وما صغر‏,‏ وتكاد مناقشاتهم وحواراتهم ان تطول كل شيء‏,‏ من أداء المكتبة
وآلياتها وأسلوب تنظيمها لمؤتمراتها وجدوي تلك المؤتمرات‏,‏ إلي مستقبل
العرب في عصر العولمة و الأزمة الاقتصادية العالمية وموقعنا علي خريطة
التقدم العلمي في العالم إلي آخره‏.‏

إن ذلك النوع من التواصل الحر
الذي يطلق عليه علميا تعبير الاتصال الشخصي هو الأعمق أثرا في تشكيل
الاتجاهات‏,‏ وبزوغ التيارات الفكرية‏,‏ وتبلور الحركات الاجتماعية
السياسية‏.‏ ولذلك فإنني كنت ومازلات علي قناعة بأن تلك المناقشات
التلقائية غير المدرجة علي جدول أعمال والتي تشهدها ردهات مكتبة
الإسكندرية قد تفوق في تأثيرها ما يطرح في جلسات المؤتمرات والندوات التي
لا يكاد يخلو يوم من انعقادها في المكتبة علي مدي العام‏.‏ فها هو مقهي
سراج الدين يمارس فعالياته علي هامش لقاءات مكتبة الإسكندرية‏.‏

ولذلك
فقد توقفت طويلا عند بعض تعليقات الإشادة أو النقد التي تناولت أداء
المكتبة مركزة علي الجانب الرسمي المخطط للمؤتمرات‏,‏ دون أن تولي اهتماما
مناسبا بحقيقة أن مجرد إتاحة الفرصة لالتقاء ذلك العدد من المثقفين
العرب‏,‏ يعد في حد ذاته فعلا إيجابيا مؤثرا‏.‏

وكنت قبل ذلك قد
التقيت بالصديق جابر عصفور‏,‏ وفي انتظار اكتمال حضور أعضاء اللجنة التي
شكلتها مكتبة الإسكندرية لاختيار الجمعية الأهلية التي تستحق جائزة الصديق
الراحل عادل أبوزهرة‏.‏ الذي كان من أوائل من وقفوا إلي جوار إسماعيل سراج
الدين في تأسيس القاعدة الثقافية لمكتبة الإسكندرية‏,‏ حيث ساهم مع جابر
عصفور ومجموعة متميزة من المثقفين في إرساء عدد من التقاليد الراسخة التي
سارت علي هديها المكتبة و مازالت تسير‏.‏

تطرق الحديث مع جابر
عصفور إلي ذكرياتنا القديمة‏,‏ حيث تذكرنا ظروف انتقال المجلس الأعلي
للثقافة من مبناه القديم إلي مبناه الجديد‏,‏ وما دار من مناقشات آنذاك
حول تصميم المبني الجديد‏,‏ وما إذا كان من اللائق في مبني من هذا النوع
أن يضم مقهي يقدم المشروبات والأطعمة‏,‏ وأذكر أن الصديق جابر عصفور لم
يكن متحمسا لمثل ذلك الاقتراح‏,‏ وأنني أيضا لم أكن متحمسا لذلك‏.‏

يبدو
أن الصورة الذهنية للثقافة لدينا لم تكن تتسق مع صورة المقهي والطعام
والشراب‏,‏ ربما باعتبار ذلك من متطلبات الإشباع المادي الفيزيقي التي
تحتل مكانة أدني من متطلبات الإشباع الروحي الفكري التي ينبغي أن تلتزم
بتقديمها مؤسسة وقورة كالمجلس الأعلي للثقافة‏.‏ لقد كنت أنا وصديقي جابر
عصفور‏,‏ رغم أن كلينا فيما أظن يعتبر نفسه منتميا لتيار التحديث
والتنوير‏,‏ كنا أقرب للتصور التقليدي المحافظ للثقافة الذي تتناقض فيه
صورة المقهي والنادل وتلك الأحاديث التلقائية التي يتبادلها الرواد وهم
يتناولون المشروبات‏,‏ مع حوارات وأنشطة المثقفين التي ينبغي أن تكون
مجدولة مخططة ذات هدف واضح معلن مسبقا يتضمنه جدول الأعمال‏.‏

تذكرت
كل ذلك في حواري مع د‏.‏جابر عصفور‏,‏ بعد أن أصبحت قهوة عصفور كما أصبح
اسمها المتداول بين المثقفين شبيهة بتلك المقاهي التي عرفتها مصر منذ زمن
طويل وكانت‏-‏ ومازال بعضها‏-‏ مقرا لندوات المثقفين وحواراتهم
التلقائية‏.‏

لقد بدأت ظاهرة مقاهي المثقفين في مصر في منتصف القرن
التاسع عشر لتتيح مجالا واسعا لأبناء الطبقة الوسطي والفقيرة من المثقفين
للمشاركة في الجدل الثقافي والسياسي الذي كان مقصورا علي الصالونات
الثقافية للطبقات الأرستقراطية المصرية‏,‏ وقد شهدت هذه المقاهي الكثير من
الحوارات والاجتماعات بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية التي كانت
تتفاعل في المشهد السياسي الفكري المصري آنذاك‏.‏ لقد انطلقت تعاليم جمال
الدين الأفغاني من قهوة متاتيا بميدان العتبة‏,‏ وشهد مقهي الحرية في باب
اللوق عددا من لقاءات الضباط الأحرار‏,‏ وكذلك مقهي إيزافيتش خلال
أربعينيات القرن العشرين بمثابة المكان المفضل للقاءات وحوارات العديد من
المثقفين المصريين‏,‏ أما مقهي ريش فقد ارتبط اسمه تاريخيا بالدور الثقافي
الذي لعبه بدءا من ثور‏1919‏ حيث كان زعماؤها يلتقون فيه‏,‏ فضلا عن أنه
علي موائده ولدت فكرة إصدار مجلة الكاتب المصري التي تولي تحريرها طه
حسين‏,‏ ومجلة الثقافة الجديدة التي رأس تحريرها رمسيس يونان‏,‏ كما شهدت
أيضا الندوة الأسبوعية لنجيب محفوظ‏,‏ وعلي موائد مقهي الفيشاوي دارت
مناقشات لاحصر لها بين مثقفين مصريين وعرب من مختلف الاتجاهات‏.‏

وقائمة
مقاهي المثقفين التي شهدتها المحروسة ومازالت تشهدها تجل عن الحصر‏,‏ وها
نحن نشهد انضمام مقهي عصفور و مقهي سراج الدين‏-‏ بما لهما من طابع
مختلف‏-‏ إلي قائمة تلك المقاهي‏.‏
‏kadrymh@yahoo.com‏