تحية إلي ست الحبايب بقلم : د‏.‏ عبدالهادي مصباح

من طرف العنتيل الأحد مارس 22, 2009 12:20 pm

تحية إلي ست الحبايب
بقلم : د‏.‏ عبدالهادي مصباح

في
اللد‏,‏ إحدي مدن فلسطين الحبيبة‏,‏ كان يغفو بيت جميل في أحضان الزيتون
والتفاح‏,‏ لكنه في الداخل يضج بالحياة الأسرية لعائلة فلسطينية تزرع
أرضها‏,‏ وتأكل من سنابل القمح الذهبية‏,‏ وثمار الزيتون الخضراء‏,‏
وأوراق الزعتر الجبلية‏,‏ كانت الأسرة في الصيف يجمع أفرادها ثمار الزيتون
ويجهزونه بأشكال مختلفة‏,‏ جزء منه يذهب إلي المعصرة كي يستخرج منه
الزيت‏,‏ وجزء آخر يوضع مع الليمون والملح والماء‏,‏ ويتم تخزينه بطريقة
جيدة ليكون جزءا من مئونة الشتاء‏,‏ أما العنب فيا له من فاكهة‏!..‏ كانوا
يصنعون منه الزبيب والخل والملبن والمربي‏,‏ ثم القمح عصب الحياة وعماد
البيت الفلسطيني‏,‏ بعد الحصاد تأخذ النساء القمح ويجتمعن في البيوت
لتساعد الأسر بعضها في طحن الحبوب داخل الطاحونة أو الرحاية المعروفة في
صعيد مصر‏,‏ وهي عبارة عن حجرين ثقيلين مستديرين يوضعان فوق بعضهما والحجر
الأعلي له يد خشبية ومفتوح من المنتصف‏,‏ حيث يوضع القمح وتتبادل السيدات
الطحن الذي يحتاج إلي مجهود بدني شاق لينزل الفريك من حول الطاحونة علي
ملاءة بيضاء نظيفة‏,‏ أما ما يتبقي من الفريك وهو بعض الدقيق فكان الأطفال
يضعون عليه السكر ويأكلونه في سعادة بالغة‏.‏

ومن القمح أيضا
يصنعون الدقيق الذي تتزود الأسر بأجولة كبيرة منه حتي تعجنه ربة البيت
وتخبزه لأسرتها‏,‏ ولا أنسي أيضا حبال الشعرية التي كانت النساء يقمن
بصنعها من العجين وسط الضحكات والقفشات‏,‏ حيث يقطعنها بأيديهن قطعا صغيرة
ثم توضع علي ملاءة نظيفة تحت ظلال الأشجار ليتم تجفيفها وتخزينها‏..‏ نسيت
أن أحدثكم عن البندورة ـ وهي الطماطم التي نعرفها في مصر ـ فقد كانت
الأسرة تجمع البندورة من الحقل أيام الصيف بكميات وافرة لتقوم بصنع
المعقود أو الصلصة‏,‏ ولكن هناك البندورة المجففة أيضا‏,‏ أما الحليب وهو
في الغالب حليب الماعز فيصنعون منه اللبنة والجبنة النابلسية‏,‏ كانت كل
هذه مصنوعات منزلية تقوم بها الجدة نبيهة هي وكناينها‏,‏ أي زوجات أبنائها
للأسرة الكبيرة‏,‏ وكان أحد الأبناء شابا كثير الصمت تميز عن إخوانه بأنه
تعلم في كتاب البلدة قليلا‏,‏ ولكنه كان يحب السفر والقراءة‏,‏ وقد أتاح
له عمله في السكة الحديد أن يسافر إلي مصر التي ملكت عليه قلبه وخياله‏,‏
حتي انتهي حبه لمصر بزواجه من فتاة صغيرة أخذها معه إلي فلسطين لتعيش سنية
وموسي في بيت العائلة الكبير‏,‏

حيث تعلمت الفتاة المصرية الصغيرة
من حماتها شئون البيت الفلسطيني‏,‏ عانت سنية من غربتها‏,‏ وبكت كثيرا
كلما كانت تسمع أم كلثوم تغني علي بلد المحبوب وديني وكم تمنت أن تعود إلي
مصر‏,‏ مصر التي كانت تحدث عنها صغارها كل يوم حتي أصبحت مكونا أساسيا في
مخيلاتهم‏,‏ شيئا فشيئا تعلمت سنية الصبر والصمود الفلسطيني‏,‏ وغرقت في
بحر مسئولياتها الكبيرة في تربية أبنائها الثلاثة الذكور‏,‏ ثم رزقها الله
بعدهم بنتا فرح بها أبوها موسي كثيرا‏,‏ وعلي الرغم من أن هذا الأب كان
صارما حادا وشديدا‏,‏ إلا أنه كان يحمل في صدره قلبا عطوفا محبا‏,‏ وقد
كانت فرحته بابنته كبيرة إلي حد أنه دخل علي أمها بعد الولادة مباشرة وحمل
الطفلة بين يديه وقبلها علي جبينها والدم مازال يغطي جسمها الصغير‏,‏ ولكن
لفت نظره أن الطفلة علي وجهها غشاء يشبه المنديل‏,‏ استغرب وسأل الداية
عنه‏,‏ أطلقت الداية زغرودة وقالت له‏:‏ إنه فأل خير يا موسي‏!..‏ خذ هذا
المنديل واحتفظ به معك‏,‏ فإنه سيكون لك مصدر خير وسعادة‏,‏ ومنذ ذلك
اليوم لم يفارق هذا المنديل جيبه حتي توفاه الله‏.‏

قال‏:‏ سأسمي
هذه البنت نائلة تيمنا باسم السيدة نائلة زوجة سيدنا عثمان بن عفان ـ رضي
الله عنه ـ لتكون رمزا للإخلاص والوفاء‏..‏ هكذا كانت تسير الحياة في
البيت الجميل‏,‏ عمل شاق خلال النهار وراحة قليلة في آخره حول بركة الماء
الصغيرة وسط أشجار التفاح‏..‏ مضت الحياة بحلوها ومرها‏,‏ وجاء ذلك اليوم
المشئوم يوم الخامس عشر من مايو آيار عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين
يوم زلزل كيان البيت الجميل‏,‏ كما زلزلت كل البيوت في اللد والرملة ويافا
وحيفا وعكا‏,‏ وانتهي الأمر بالطرد والتشريد وأمر الأعداء بأن تغادر
الأسرة منزلها شأنهم في ذلك شأن باقي العائلات‏..‏ كان موقفا عصيبا
رهيبا‏.‏

وقف رب الأسرة في ذلك اليوم يبكي وهو الطود الشامخ الذي
لم ير أحد دموعه من قبل‏,‏ وقف أمام أمه الكفيفة يقول‏:‏ هيا يا أمي
سأحملك فوق ظهري وآخذك مع زوجتي وأولادي ونرحل‏..‏ ولكن كيف؟‏..‏ يا
إلهي‏!..‏ ما أصعب تلك اللحظات‏!..‏ أجابت الأم بصوت ذبيح‏:‏ كيف تحملني
يا ولدي وتمشي بي بين الجبال والأشواك؟‏!‏ إن الأمر سينتهي بك إلي التعب
وستضطر إلي تركي في العراء‏,‏ فمن الأفضل أن تتركوني في بيتي حتي يقضي
الله أمرا كان مفعولا‏.‏

لم يكن أمام الأب في ذلك الوقت ما يستطيع
عمله‏,‏ فهو أمام كارثة أكبر منه‏..‏ اتجه بعينيه إلي السماء وقال‏:‏
سامحني يا إلهي‏!..‏ ثم انحني علي يدي أمه ورجليها يقبلها ويغسلها بدموعه
لينصرف بعدها حاملا بعض الماء والزاد والملابس في حقيبتين‏,‏ وحمل كل ولد
من الأولاد شيئا يستعان به في تلك الرحلة إلي المجهول‏,‏ أما الأم فقد كان
لزاما عليها أن تحمل صغيرتها نائلة والتي لم تكن تتمكن من المشي بعد‏,‏
حملتها علي كتفها وسارت‏,‏ وأخذت العائلة طريقها مع العائلات بين الجبال
الوعرة والأشواك وتحت وهج الشمس الحارقة‏,‏ وأخذ الإرهاق يحل بالجميع‏,‏
وتعبت الأمهات من حمل أطفالهن الرضع الذين بدأوا بالصراخ جوعا وعطشا‏,‏
وفي لحظة يأس قاتلة تركت بعض الأمهات أطفالهن وواصلن السير في طريق
المجهول‏.‏

نظرت سنية حولها وقد هدها التعب والمرض والألم فرأت
النساء يضعن أطفالهن ثم يواصلن السير فحدثتها نفسها‏:‏ ولم لا تفعلين
مثلهن؟‏..‏ لم لا تتركين هذه الطفلة؟ إن لها ربا سيتولاها‏!..‏ وما هي إلا
لحظات قليلة حتي اتجهت سنية إلي شجرة ووقفت تحتها قليلا ثم وضعت الطفلة
تحت ظلها بعد أن ألقمتها ثديها الجاف‏,‏ ووضعت في فمها آخر قطرات من الماء
كانت معها‏,‏ وقبلتها ودموعها تحرق وجهها‏,‏ فقد كان يوما أشبه بيوم تذهل
فيه كل مرضعة عما أرضعت‏..‏ قبلتها ودعت الله أن يحفظها ومضت في طريقها
كالآخرين‏..‏ ولكن هيهات‏!!!‏

فقد انطلق صوت الطفلة الضعيف الواهن
مدويا في أذني الأم كأنها تستغيث‏:‏ يمــا‏..‏ يمــا‏..‏ انهارت سنية ولم
تستطع مقاومة النداء‏..‏ نام الألم والتعب‏,‏ واستيقظ صوت الأمومة‏..‏
أسرعت عائدة لتضم ابنتها إليها بكل ما تبقي لديها من قوة‏,‏ واستجمعت
قواها الخائرة‏,‏ ثم لحقت بزوجها ولكنها ما لبثت أن وقعت هي والطفلة علي
الأرض‏.‏

تلفت الأب المسكين حائرا عاجزا فرأي رجلا يسوق حماره وقد
وضع طفله في الخـرج علي ظهر الحمار ووضع حاجياته في الخرج الآخر فتوسل
إليه أن يأخذ الطفلة ويضعها في الخرج‏,‏ فما كان من الرجل إلا أن طلب
مبلغا من المال عبارة عن دينارين‏,‏ وكان ذلك المبلغ يساوي ثروة في تلك
الأيام‏,‏ وكان هو كل المبلغ الذي يحمله الأب في جيبه وليس معه غيره‏..‏
دفع بالدينارين إلي الرجل الذي وضع الطفلة فوق ظهر الحمار وواصل الجميع
المسيرة علي الأشواك والرمال والحجارة أربعا وعشرين ساعة‏,‏ تورمت الأقدام
ونزفت الدماء‏,‏ وانتهت العائلة إلي مدينة رام الله لتبدأ منها حياة جديدة
أخري تسمي حياة اللاجئين‏,‏ حيث أخذوا في التنقل من بيت إلي بيت لا تحيط
به أشجار التفاح‏,‏ ولا تتوسطه بركة الماء‏,‏ ولا تفوح منه رائحة أشجار
الزيتون‏,‏ بيت بدأت منه رحلة كفاح طويلة يكبر فيها الأنباء‏,‏ وتكبر فيها
نائلة لتكتب لكم هذه القصة في عيد الأم‏.‏

كانت هذه هي الرسالة
التي تلقيتها من القارئة نائلة موسي الطرطير‏,‏ ورأيت أن أهديها إلي كل
ابن وابنة في عيد الأم‏,‏ وكل عام وكل أم بخير‏,‏ وكل سيدة كانت تتمني أن
تكون أما بخير‏,‏ وكل زوجة أب حنون قامت بدور الأم الحقيقية لأبناء زوجها
بخير‏..‏ وأخيرا‏..‏ وبكل ما أملك من حنين وحب وشوق ولهفة‏,‏ أهفو إلي أمي
في قبرها وأقول لها‏:‏ وحشتيني يا ست الحبايب‏.‏