قرآن وسنة د. عبد الله النجار

قرآن وسنة
د. عبد الله النجار

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل
إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله. من أحق الناس بحسن
صحبتي؟. قال: أمك. قال: ثم من؟. قال: أمك. قال: ثم من؟. قال: أمك. قال: ثم
من؟. قال: أبوك" متفق عليه.

هذا الحديث الشريف يدل علي تأكيد حق الأم في البر وحسن الصحبة من
الابن. بما تقتضيه من تلمس رضاها. والقيام بواجباتها. وتحقيق ما ترغب فيه
أو تشير إليه من مقتضيات الحياة وما تتطلبه المعيشة الكريمة. وهذا القدر
من دلالة الحديث محل اتفاق من جماهير العلماء. بيد أن خلافاً وقع بينهم في
مقدار البر الواجب للأم وما إذا كان مساوياً للأب. أم ان للأم قدراً
زائداً منه عن حق الأب؟. اختلف الفقهاء في ذلك إلي قولين:

أولهما: ان للأم قدراً زائداً من البر عن الأب. وان هذا القدر يزيد
عن حق الأب ثلاث مرات. بدليل ان النص علي حسن الصحبة التي هي من مقتضيات
البر والمدخل إليه قد ورد في الحديث المذكور ثلاث مرات. بينما ورد النص
علي حق الأب مرة واحدة. ولو كان مساوياً له لذكر مثله في العدد. ولما هو
معروف ان زيادة المبني تقتضي زيادة المعني بما يقابل تلك الزيادة اللفظية.
وإلا لما كان لها معني. وقد يقال: إن الزيادة للتأكيد. وهو لا يقتضي
مقابلاً في العمل. فيتساوي الأب مع الأم في قدره مع التأكيد علي حق الأم.
إلا أن هذا القول مردود بأن التأكيد مستفاد من تقديم حق الأم في الذكر
ثلاث مرات علي حق الأب. فالتقديم في الذكر يقتضي التأكيد بما لا يبقي
محلاً لغيره. فبقي تعدد ذكر حق الأم ثلاث مرات لتعدد مقدار ما يجب لها
بهذا القدر زائداً عن حق الأب.

وثانيهما: يري أصحابه بحق أن مقدار ما يجب للأم من البر لا يزيد عن
حق الأب. بل هو مساو له. حيث أوجب الله برهما "معاً" في أكثر من آية. منها
قوله تعالي: "وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً". وقوله
تعالي: "ان اشكر لي ولوالديك إلي المصير". والآيات في هذا المعني كثيرة.
وهي تدل علي اجتماع الأب مع الأم في حق البر معاً دون تفرقة. وبدليل قوله
تعالي: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا
تنهرهما وقل لهما قولا كريما". حيث لا يدرك المتأمل في هذا القول الكريم
أدني تفرقة بين الأم والأب في مقدار البر الواجب لهما. وهذا ما تفيده
الأدلة الشرعية ومنها الحديث الشريف.

وقالوا عن مسألة تكرار النص علي حسن الصحبة ثلاث مرات في الحديث
المذكور. انها مقصودة لمعني يستوجب تذكير الابن بحق الأم. لانها حملته في
بطنها جنيناً. ووضعته كرهاً وضعفاً وإرهاقاً. وأرضعته صغيرا حتي تم فطامه.
ثم تعهدته بحضانتها مأكلاً وملبساً وعطفاً وتحنانا. وكان يبول عليها
ويتغوط فلا تتأفف ولا تجزع بل تقبله وتضحك وتحتضنه. كل ذلك وهو صغير لا
يعي ولم يكن قد كلف من ربه بعد. فلما شب عن الطوق ووصل إلي مرحلة التكليف
التي يخاطب فيها من ربه بالبر لوالديه لا يكون أمام ناظريه سوي الأب الذي
يعطيه النقود ويشتري له ما يلزمه من اللعب والملابس. أما ما قدمته الأم
فإنه يكون في طوايا الماضي بالنسبة له. والماضي هو مادة النسيان غالباً.
فأراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يذكره بالذي مضي حتي لا ينسي أفضال أمه
عليه.