العدو الشرس للمصير‏!‏ بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

من طرف سعود الإثنين مارس 23, 2009 3:06 pm

العدو الشرس للمصير‏!‏
بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

استوقف
رجل فقير محاميا لايعرفه في أحد شوارع بطرسبرج طارحا عليه صعوبات حياته
التي تحرمه من استحقاقاته في المأوي‏,‏ والعمل‏,‏ والطعام‏,‏ والبقاء‏,‏
إذ لم يذق الطعام منذ ثلاثة أيام‏,‏ شارحا السبب أنه كان ضحية دسائس أعضاء
مجلس القرية‏,‏ وشهود الزور‏,‏ حيث كان يعمل مدرسا في إحدي مدارس
القرية‏,‏ وفصل من عمله لما ألصقوه به من اتهامات باطلة‏,‏ ثم مضي عام وهو
لا يجد عملا‏,‏ تري هل كان الرجل يسرد حقيقية‏,‏ أو أنه يتحجج بفساد
تبريرا للاستجداء؟ لاشك أن حديث الرجل الفقير يتسم بالتبسيط‏,‏
والانتقاء‏,‏ والاختزال‏,‏ وهي خصائص تسويق التأثير الخاطف‏,‏ والاستحواذ
علي المشاعر والانفعالات‏.‏

استوعب المحامي كلام الرجل‏,‏ وتطلع
إلي صورته المهلهلة‏,‏ ومايبتدي من احمرار وجنتيه‏,‏ وعينيه العكرتين من
آثار الخمر‏,‏ فساوره الشك أنه قد قابل ذلك الرجل من قبل‏.‏ صحيح أننا
يمكن أن نتذكر الأشياء بدون الصور‏,‏ لكن الصحيح أيضا أن الصور تعد جزءا
من تجربة التذكر‏,‏ استحضارا لأمر تمت معرفته سلفا‏.‏ أمعن المحامي في
تفرس الرجل الفقير استدعاء لصورته‏,‏ إلا أن الرجل الفقير ـ وكأنه أراد أن
يتخطي بالمحامي بعيدا عن لحظة بحثه في روابط ذاكرته ـ عاجله‏,‏ مضيفا
معلومة جديدة لها دلالتها‏,‏ تضع نهاية لحال استجدائه‏,‏ ذلك أنه قد عرضت
عليه اليوم وظيفة في محافظة أخري‏,‏ وهو مايعني أنه لم يعد ثمة مايؤجل أو
يعرقل حقه الإنساني في العمل‏,‏ لكنه لايملك ثمن تذكرة رحيله‏,‏ مؤكدا أنه
وإن كان يطلب المساعدة‏,‏ فهو خجل من سؤاله‏,‏ لكن للضرورة أحكامها‏.‏ تري
هل كان الرجل صادقا‏,‏ أو أنه اخترع ذلك الوهم المستقبلي خشية شيء أدرك
افتضاحه‏,‏ أو أنه محض حيلة تسهل حصوله علي المساعدة؟‏.‏

تذكر
المحامي مستوثقا أنه قابل ذلك الفقير من قبل في شارع آخر بالمدينة‏,‏ لكنه
لاحظ تضاربا في أقواله الراهنة مع ماقاله في المرة السابقة‏.‏ ووفقا لأفق
الفهم القانوني للمحامي‏,‏ فقد نقل أقوال الفقير المتضاربة من مستوي
التلقي العابر إلي مستوي المساءلة‏,‏ حيث واجه الفقير محددا له اسم الشارع
الذي التقاه قبلا‏,‏ وراح يذكره بأنه عند لقائه به في المرة الأولي ادعي
أنه كان طالبا مطرودا‏,‏ مكررا عليه السبب الذي ادعاه آنذاك لفصله‏,‏ في
حين أنه هذه المرة يزعم أنه كان مدرسا في قرية‏,‏ لاشك أنه استنادا إلي أن
هذه الأقوال تثير‏,‏ لكنها لاتشير إلي حقيقة في واقعه‏,‏ فإنها بذلك تغدو
كذبا‏,‏ وقرر المحامي أن الرجل بذلك يستوجب أخلاقيا الاحتقار‏,‏ بل أجري
المحامي تكييفا قانونيا لتلك الأقوال بوصفها اتهاما بالغش والنصب من قبل
الفقير‏,‏ حيث لايبرر جوعه الكذب‏,‏ ولايبيحه أيضا فقره‏.‏

استرسل
المحامي في تفنيد إدعائه ضد الفقير‏,‏ بأن أقواله تشكل أيضا نوعا من
استغلال عواطف الجمهور العام نحو مدرسي القري وطلبتها‏,‏ والسطو عليها‏,‏
وقد اعلن المحامي في بكائية أخلاقيه بلاغية توصيفا لادانة ذلك الفعل‏,‏
منتقيا مفرداتها من قائمة أحط الصفات‏,‏ مقرونة بالشتائم والتوبيخات‏.‏ ثم
لوح المحامي بالضرر الذي أصابه شخصيا من جراء ذلك الكذب‏,‏ إذ اعتبره
عدوانا علي مايعتز به في نفسه ويكبره‏,‏ من حساسية وشفقة وعطف علي
الفقراء‏,‏ حيث إن الفقير بكذبه كأنه يحاول أن يغدر بعطفه‏,‏ ويفسد عليه
حبه للإحسان إلي الفقراء الذي يمارسه في غبطة وارتياح‏.‏ انهار الفقير بعد
كل محاولات الإنكار أمام قائمة الاتهامات‏,‏ وأعلن أنه كذاب‏,‏ وأنه كان
يعمل في إحدي جوقات المرتلين الروس‏,‏ وطرد منها لإسرافه في الخمر‏.‏ إذن
كان الرجل يتمتع بحق العمل‏,‏ كما أن السبب في بطالته لم يأته من خارجه‏,‏
بل هو وليد غياب عقله‏,‏ وقصور وعيه عن إدراك التناقض الذي يمارسه‏,‏
وانهزام إرادته علي ضبط ذاته‏,

‏ وافتقاده لأي استبصار مستقبلي
يسمح له بطرح الأسئلة علي ذاته وواقعه وغده‏,‏ فشكل قصور وعيه العدو الشرس
لمصيره‏,‏ الذي تجسد في دلالة إدمانه الخمر بوصفه السبب المباشر في عطالة
وعيه‏,‏ واختزال حد الحياة والوجود في الخضوع للإغواء مهما تعارض مع أية
قيم‏.‏ لكن الرجل مع اعترافه‏,‏ تمسك بمشروعية ممارسته الكذب‏,‏ بإعلانه
أنه لايستطيع أن يعيش بدونه‏,‏ مبررا ذلك بأنه في ظل قول الحقيقة سيموت
جوعا‏,‏ ويتجمد دون مأوي‏,‏ وكأن الكذب ـ وفقا لقناعته ـ أصبح خياره
الوحيد‏,‏ إذ سوغ له نقصان وعيه تسويق مشروعية ما لا مشروعية له‏,‏ عندئذ
صاح به المحامي بأن العمل ضرورة للحياة‏,‏ ولايغدو بديلا عنه خيار الكسل
والسكر والتسول والكذب‏,‏ رافضا ومدينا كل التسويغات التي طرحها الرجل
بأنه لايجيد أية حرفة‏,‏ ولم يسأله المحامي عن قدراته أو عما يجيده‏,‏ بل
طلب إليه ممارسة العمل اليدوي‏,‏ عارضا عليه العمل لديه في تقطيع
الأخشاب‏,‏ فقبل الرجل عرضه‏.‏

تقدمت طاهية منزل المحامي وخلفها
الرجل الفقير لترشده إلي مكان عمله‏,‏ وقد تبدي تأثير الخمر فيه واضحا‏,‏
مفصحا عن عدم شعوره بأي ميل إلي العمل‏.‏

ألقت الطاهية الفأس عند
قدميه‏,‏ وبصقت علي الأرض‏.‏ سحب الرجل قطعة من الخشب في تراخ‏,‏ وحاول
شقها‏,‏ لكنه اخفق مرتين في إنجاز عمله‏.‏ كان المحامي يقف محتجبا
يراقبه‏.‏ صحيح أن المحامي عندما لاحظ إخفاقه‏,‏ انتابه شعور بالندم‏,‏
لأنه أرغم رجلا سكيرا مترفا‏,‏ وربما كان مريضا‏,‏ علي القيام بعمل صعب في
البرد القارس‏,‏ ولكن الصحيح أيضا أن المحامي مع ذلك لم يأبه لفكرة مراجعة
ذاته في قراره‏,‏ بما لايمس أو يؤثر في مبدأ مساعدة الرجل الفقير علي
إعادة صياغة حياته‏,‏ تأهيلا لقبوله فكرة العمل بديلا للتسول والكسل
والكذب‏,‏ بل إنه تمسك باستمرار تنفيذ قراره بممارسة الرجل شق الخشب‏,‏
مبررا ذلك بأنه شرط لصلاحه‏,‏ وأن فيه تحقيقا لمصلحته‏.‏ بعد مرور ساعة
ظهرت الطاهية وأعلنت أن الخشب قد قطع‏.‏ طلب إليها المحامي أن تعطي الرجل
بعض النقود‏,‏ والتنبيه عليه بالحضور في أول كل شهر لممارسة العمل‏.‏ واظب
الرجل علي الحضور دون رؤيته للمحامي أبدا‏.‏ بعد فترة استدعاه المحامي
وتعرف اسمه‏,‏ وإجادته للكتابة‏,‏ عندئذ سلمه رسالة إلي أحد أصدقائه ليوفر
له عملا يعتمد علي قدرته علي الكتابة‏.‏

غادر الرجل المنزل‏,‏ ومر
عامان انقطعت فيهما صلتهما‏.‏ تقابل الرجلان مصادفة عند دخولهما أحد
المسارح‏.‏ ولأن المسرح يمثل إحدي مؤسسات التلقي الفنية والثقافية‏,‏ التي
تولد لدي روادها اكتساب إمكانية طرح الاسئلة‏,‏ لذا فإن تردد الرجل الفقير
إليه يعني دلالة متغير طرأ علي حياته‏.‏ سأله المحامي عن عمله‏,‏ فأخبره
الرجل أنه يعمل في مكتب للعقود‏,‏ ويتقاضي مرتبا شهريا مجزيا‏.‏ أبدي
المحامي سعادته‏,‏ وراح يذكره بفضله في توجيهه إلي الطريق المستقيم‏,‏
وأنه لولا التوبيخ الذي كاله له لظل يجوب الشوارع متسولا‏.‏ اعترف الرجل
للمحامي بجميله‏,‏ وبأن حضوره إلي منزله قد أنقذ معني حياته‏,‏ كاشفا له
أنه لم يشق أية قطعة خشب طوال تردده إلي منزله‏,‏ وأن الطاهية هي التي
قامت بذلك بدلا منه‏,‏ إذ أضنت نفسها من أجله‏,‏ بنبل أدائها وتفانيها‏,‏
وحررت إرادته الذي احتلها إدمان الخمر الذي سبب قصور وعيه بذاته وبمن
حوله‏,‏ مؤكدا أن سلوكها النبيل هو الذي غير حياته ومنحه السلامة‏,‏ وأنه
سيظل مدينا لها مدي عمره بحريته وسلامته‏.‏ ثم دق جرس المسرح‏,‏ دلالة
متابعة ممارسة اكتساب الوعي‏,‏ وطرح الاسئلة الصحيحة علي الوجود بكامله‏.‏

صحيح
أن قصة رجل فقير للكاتب الانجليزي سومر ست موم‏,‏ تبدو عند قراءتها الأولي
بوصفها قصة عن الفقر‏,‏ لكن ارتقاءها إلي التأويل يدفع كل ماتحويه من
معايير حيوية إلي التخطي المفتوح لدائرة الحكاية‏,‏ فيمنح معني التفاني
والتحرر‏,‏ والسلامة‏,‏ وبناء الوعي‏,‏ والمشروعية اكتساء لدلالات حضور
تتردد أصداؤها في مجالات حياتنا الاستمرار‏,‏ لذا فإننا نستحضر تلك
المعايير بعد مرور ثلاثين عاما علي معاهدة السلام‏,‏ لنثمن معني التفاني
النبيل مجسدا في شهدائنا الذين منحونا وطنا محررا‏,‏ كان تحريره رهين
أرواحهم‏,‏ حيث معني السلامة للوطن غاية‏,‏ وليس من غاية خارجه‏,‏ فالوطن
لايقرض‏,‏ ولايضحي به‏,‏ بل يضحي من أجله‏,‏ ونحن ـ ومن يأتي من بعدنا ـ
نحمل في أعناقنا مديونية معني الحفاظ علي سلامة الوطن وحمايته بممارسة
مباشرة ودائمة في بناء وعي غير ملتبس يعزز القدرات‏,‏ ويطرح الأسئلة
الصحيحة‏,‏ ولايسقط تحت إغواءات الفخاخ المنصوبة التي تقود إلي إثم فقدان
مصير الوطن‏,‏ من قبل شياطين الغواية‏,‏ صناع الأوهام والاستحالات‏,‏
والمتلاعبين المتاجرين‏,‏ والغشاشين الذين يحاولون احتلال الوعي وإبطاله
بالتخبط والقصور‏,‏

ليسوغوا مشروعية ما لاشروعية له‏,‏ اغتيالا
لليقظة والحكمة بممارسة التخدير بالصخب والضجيج‏,‏ لذا يظل احتلال الوعي
هو العدو الشرس للمصير‏.‏