الهويــة الثقافيــة‏(2)‏ وقد صدق شاعرنا أحمد شوقي حين قال‏:‏ قــد قضــي اللـه أن يؤلـفـــنا بقلم : د‏.‏ جابر عصفور

من طرف **احمد** الإثنين مارس 23, 2009 3:10 pm

الهويــة الثقافيــة‏(2)‏
وقد صدق شاعرنا أحمد شوقي حين قال‏:‏
قــد قضــي اللـه أن يؤلـفـــنا
بقلم : د‏.‏ جابر عصفور

وقد صدق شاعرنا أحمد شوقي حين قال‏:‏

قــد قضــي اللـه أن يؤلـفـــنا الجرح‏,‏ وأن نلتقي علي أشجانه

كلمــا أن بالعـــراق جــريح لمــس الشــرق جـنبه فـي عـمانه

وعلـينا كــما علـيـكم حــديد تتــنزي اللــيوث فــي قضــبانـه

نحن في الفقه بالديار سواء كلــنا مشـــفق علــي أوطــانـه

ولكن
رغم ذلك فالهوية الثقافية لكل قطر عربي لا تتطابق مع الهوية الثقافية لكل
قطر آخر بالضرورة‏,‏ فرغم عوامل الاتفاق هناك عوامل الاختلاف‏,‏ وأعتقد أن
أهم خطأ ثقافي وقع فيه‏,‏ ولا يزال‏,‏ الفكر القومي الأصولي أنه يقيم
مفهوم الوحدة العربية علي أساس من عناصر الاتفاق وحدها‏,‏ متجاهلا عناصر
الاختلاف‏,‏ ولم يضع في اعتباره مبدأ الوحدة القائمة علي التنوع الذي كان
يمكن أن يثري ممارسات الوحدة العربية ومحاولاتها ولكن هذه هي أزمة الفكر
الأصولي بوجه عام‏,‏ خصوصا حين يرفـض وحـدة التـنوع الـتي يستـبدل بها
وحـدة التـطابق بـين كــيانات‏,‏ يتصور هذا الفكر أنه يمكن إلغاء الاختلاف
بينها لصالح الاتفاق‏,‏ وكانت النتيجة هي فشل تجربة دولة الوحدة القومية
لأسباب عدة‏,‏ منها أنها لم تعرف الإدارة الرشيدة للعلاقة بين طرفي الوحدة
القسرية والتنوع الذي لم تعترف به قط‏.‏

والحق أن ما يحدث في مدي
وحدة التنوع القائمة بين الهويات الثقافية العربية هو‏,‏ في جوهره‏,‏
العنصر البنائي في وحدة التنوع البشري الخلاق بين الهويات الثقافية لأقطار
العالم كله وهي الوحدة التي تؤكدها منظمة اليونسكو من خلال تقرير اللجنة
العالمية للثقافة والتنمية الذي أصدرته اليونسكو وأشرفت علي ترجمته
سنة‏1997‏ بعنوان التنوع البشري الخلاق‏.‏ وهو عنوان يؤكد أن مبدأ الفعل
الابتكاري في الثقافة الإنسانية هو تأكيد معني التنوع الثقافي الخلاق الذي
يقوم علي احترام الهويات الخاصة بكل حضارة والخصائص النوعية لثقافة كل أمة
وهو مبدأ يمكن أن نجد أفضل تجسيد له في عبارات المهاتما غاندي إني مستعد
أن أفتح نوافذ بيتي لتدخل الرياح الآتية من كل اتجاه وصوب في العالم‏,‏
شريطة أن لا تنتزع ريح منها بيتي من جذوره ولكن ماذا يحدث حين يطغي عنصر
من العناصر المكونة للهوية الثقافية للأمة‏,‏ سواء من منظور الثبات أو
التغير‏,‏ أو الاثنين معا؟ الإجابة الجاهزة هي أن الهوية الثقافية لابد أن
تختل وتعتل معا‏,‏

ويصيبها الضعف الذي يفقد الثقافة نفسها القدرة
علي الاتزان‏,‏ وصنع إنجازات إبداعية تتباهي بها علي غيرها من الثقافات‏,‏
علي امتداد الكوكب الأرضي الذي يتسارع إيقاع التقدم فيه بمعدلات غير
مسبوقة‏,‏ خصوصا بعد الثورة المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات التي أحالت
الكوكب الأرضي إلي قرية كونية لا مجال فيها للنكوص أو التقهقر أو حتي
التوقف ولنضرب مثلا بإمكان تغليب العنصر الديني علي الثقافة‏,‏ خصوصا في
ظل شروط تاريخية‏,‏ تفرض الجمود علي الفكر الديني‏,‏ وتسمه بالتعصب لا
التسامح‏,‏ خصوصا في المدي الذي يحيل الفكر الديني إلي نسق مغلق‏,‏
متعصب‏,‏ يقترن بنزعة تديين‏,‏ لا يري المنطوون عليها سوي أنهم‏,‏
وحدهم‏,‏ علي الحق‏,‏ وغيرهم علي الباطل‏,‏ فهم الفرقة الناجية‏,‏ وسواهم
الفرق الضالة المضلة والنتيجة قمع ثقافة الحوار‏,‏ واستئصال حق الحوار‏,‏
والإبعاد القمعي للمخالفين‏,‏ وذلك في موازاة انغلاق الذات الثقافية
الجمعية علي نفسها‏,‏ ورفضها لما يجري حولها‏,‏ غير واثقة إلا في ماضيها
وتراثها وكل ما يجعلها لا تقبل أي تغير ممكن إلا بعد قياسه علي نظير قديم
له‏,‏ فالماضي هو الأصل الآمن‏,‏ والمستقبل هو المجهول المريب الذي قد
يوقع في بدع الضلالة ا
لمفضية إلي النار لو حدث هذا‏,‏ تتحول الهوية
الثقافية إلي هوية مغلقة‏,‏ نافية للاختلاف‏,‏ طاردة للحوار‏,‏ معادية
للمساءلة‏,‏ رافضة للمجادلة بالتي

هي أحسن‏,‏ أميل إلي العنف
القمعي في التعاون مع المختلفين أو المخالفين أو حتي المغايرين فتستحق
تسمية الهوية القاتلة وهي التسمية التي أطلقها أمين المعلوف‏,‏ بعد أن رأي
ما فعلته الأصوليات الدينية الثقافية‏,‏ في وطنه لبنان‏,‏ حيث اضطر إلي
الفرار منه‏,‏ والنجاة بحياته وحياة أسرته‏,‏ مدركا الجحيم الذي تنفتح
أبوابه علي البشر‏,‏ إذا تسلطت عليهم هويات قاتلة يعني هويات ذات طبيعة
أصولية قمعية لا تعرف سوي استئصال الآخر‏,‏ دينيا‏,‏ واستبعاده أو التهوين
من شأنه‏,‏ ثقافيا‏,‏ وحرمانه من حقوقه الإنسانية‏,‏ اجتماعيا‏,‏ ونفي صفة
المواطنة عنه‏,‏ عمليا والنتيجة تحول الدولة المدنية إلي غابة تسيطر عليها
وحوش الهويات القاتلة دينيا وثقافيا واجتماعيا إلخ التي لا يمكن سوي أن
تؤدي إلي الدمار والخراب للجميع‏,‏ وأولهم الإخوة الذين يتحولون إلي إخوة
أعداء‏,‏ لا هم لأي فرد فيهم سوي القضاء علي غيره‏,‏ في الأوار المستعر
لجحيم المقتولين القتلة ولا سلام ولا تقدم‏,‏ في أية أمة من الأمم‏,‏ إلا
حين تتوازن عناصر الهوية الثقافية‏,‏ وتتفاعل سلميا‏,‏

في سياق
شروط تاريخية مواتية عندئذ تتحول الهوية الثقافية إلي مصدر قوة متجددة‏,‏
وتقدم متواصل‏,‏ خصوصا حين يسفر التجاوب بين عناصر الهوية وبينها والشروط
التاريخية التي تتبادل وإياها الفاعلية عن صفات الانفتاح وتقبل الاختلاف
والمجادلة بالتي هي أحسن‏,‏ وقياس الحاضر علي إمكانات المستقبل ووعوده‏,‏
وقس علي ذلك غيره من الصفات التي تتشكل في إطار دولة مدنية‏,‏ لا تتجاهل
بعض تاريخها لحساب غيره‏,‏ ولا تقمع فاعلية التنوع التي هي مصدر قوة
الهوية الثقافية وسر تطورها الدائم‏,‏ في عالم يتبادل وإياها صفات الإيجاب
وإمكاناته الواعدة