الجذور التاريخية للأزمة العالمية بقلم : السيد يسين

من طرف شرم برم الجمعة مارس 27, 2009 3:43 pm

الجذور التاريخية للأزمة العالمية
بقلم : السيد يسين

هناك
اتفاق علي ان الازمة الراهنة‏,‏ وسواء وصفناها بأنها ازمة مالية كما يذهب
إلي ذلك الساسة الأمريكيون ومعهم بعض الخبراء الاقتصاديين‏,‏ أو هي ازمة
اقتصادية كما يصفها بعض الثقات من كبار المفكرين الاقتصاديين‏,‏ فهي بكل
المقاييس ازمة عالمية‏,‏ وذلك لانها تعدت حدود الاقتصاد الأمريكي مؤثرة
سلبا في الاقتصاد الأوروبي وفي الاقتصاد الآسيوي وفي مقدمته الاقتصاد
الصيني بالاضافة إلي الاقتصاد الافريقي والعربي‏.‏

وازمة بهذا
الحجم لايمكن ان تكون وليدة ظروف طارئة خاصة بالاقتصاد الأمريكي وحده‏,‏
أو نتيجة تغليب الاقتصاد الافتراضي علي الاقتصاد الواقعي والانغماس في
عالم المضاربات الزاخر بالمخاطر والذي شبهه البعض بأنه اشبه بكازينو تمارس
فيه كل العاب القمار الاقتصادية‏,‏ التي يقوم بها مجموعة من المغامرين من
رؤساء البنوك الكبري ومديري المؤسسات الرأسمالية العملاقة‏.‏

وفي
تقديرنا ان هذه الازمة العالمية ازمة اقتصادية بالاساس بمعني ان هناك خللا
جسيما في نموذج الرأسمالية المعولمة الذي طبقت قواعده في العقود الأخيرة
وامتدت ممارساته إلي كل بلاد العالم بفضل موجات العولمة المتدفقة في ظل
مذهب الليبرالية الجديدة الذي روجت له اساسا الولايات المتحدة الأمريكية
والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي‏,‏ بل وفرضته فرضا علي مختلف البلاد
النامية وبدون مراعاة لظروفها الخاصة‏,‏ وبغض النظر عن آثاره السلبية علي
التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي‏.‏

غير انه يخطئ من يظن ان
الخلل الذي اعتري معمار النموذج الرأسمالي المعلوم مسألة طرأت حديثا‏,‏
لان التحليل النقدي للموقف‏,‏ يؤدي بنا إلي نتيجة مهمة هي ان هذا الخلل
صاحب النموذج الرأسمالي منذ نشأته‏.‏

وتكمن
المشكلة اساسا في قضية السوق وهو الفضاء الاقتصادي الذي ابتدعته
الرأسمالية‏,‏ وهل يترك مطلق العنان ينظم نفسه بنفسه وفق آلية العرض
والطلب كما ذهب إلي ذلك انصار الرأسمالية الاوائل‏,‏ أو ينبغي وضع قيود ما
علي حرية السوق المطلقة‏.‏ واذا اتفق علي أهمية وضع القيود فما هي
طبيعتها‏,‏ وماهي الآليات التي يمكن بناء عليها تنفيذها في الواقع؟
والحقيقة
ان هذه الاشكالية ابرزها بشكل غير مسبوق المفكر الاقتصادي الشهير كارل
بولاني صاحب الكتاب التأسيسي التحول الكبير الذي صدر في الولايات المتحدة
الأمريكية عام‏1942,‏ واصبح منذ هذا التاريخ المرجع في الموضوع حتي الوقت
الراهن‏.‏

استطاع كارل بولاني ان يقدم عن السوق نظرية متكاملة‏,‏
من حيث نشأتها التاريخية‏,‏ ووظائفها الاقتصادية وطريقة عملها‏,‏ ولكن
نظرا لنزعاته الاشتراكية تحفظ علي فكرة حرية السوق المطلقة التي روج لها
غلاة الفكر الرأسمالي وحذر منها مبكرا‏,‏ مقررا بوضوح انها يمكن ان تؤدي
إلي مخاطر شتي‏.‏

وقد أخذ الخيط منه مفكر أمريكي من اصول أوروبية
تماما مثل كارل بولاني وهو جوزيف شومبيتر مؤلف كتاب الديقراطية
والاشتراكية والرأسمالية والذي صاغ عن الرأسمالية عبارة شهيرة مفادها انها
تحمل في ذاتها بذور فنائها لان التناقض الجوهري الكامن فيها هو جماعية
عملية الانتاج من ناحية وفردية الاستحواذ علي الفائض من ناحية أخري‏!‏

ويعني
ذلك بكل بساطة ان عملية الانتاج التي يشارك فيها آلاف العمال والفنيين
والمهندسين ذهب الفائض المتحقق منها إلي ايدي مجموعة قليلة العدد من
الملاك الرأسماليين أو مديري المشروعات والبنوك‏.‏

ويمكن القول إنه
لو اردنا التتبع التاريخي لجذور المشكلة لوجدناها في المعركة العلمية
والايديولوجية الكبري بين العلماء الاجتماعيين الرواد الذي اقاموا صرح
العلم الاجتماعي الحديث والذين انقسموا إلي مدرستين‏,‏ المدرسة المحافظة
التي تريد الابقاء علي النظام الراسمالي والدفاع عنه ومحاولة اصلاح
سلبياته بالتدريج وعبر آليات المساومة والتفاوض بين اطراف العملية
الانتاجية ونعني الرأسماليين والعمال‏,‏ والمدرسة الثورية لتي تسعي إلي
الانقلاب علي النظام الرأسمالي عن طريق ثورة الطبقة العاملة واقامة اقتصاد
اشتراكي بديلا له‏.‏

وتتضح الصورة بجلاء لو تتبعنا النشأة
التاريخية لعلم الاجتماع في أوروبا‏,‏ فقد صاحبت نشأته علي يدي أوجست كونت
معركة فكرية كبري بين الوضعية باعتبارها ايديولوجية الطبقات البرجوازية
المحتكرة للسلطة في المجتمعات الأوروبية‏,‏ وبين الاشتراكية باعتبارها
ايديولوجية الطبقة العاملة التي كانت قد اخذت تتزايد في حجمها‏,‏ ويثقل
وزنها مع اتساع نطاق الثورة الصناعية‏,‏ وتحويل المجتمعات الزراعية إلي
مجتمعات صناعية‏,‏ فقد اخذت هذه الطبقة تعي بنفسها شيئا فشيئا‏,‏ إلي ان
تبلور وعيها الطبقي نتيجة ازدياد علمية الفكر الاشتراكي وابتكاره ادوات
تحليل متقنة‏,‏ خصوصا نتيجة لاسهامات كارل ماركس الذي استطاع ان يكشف بعمق
وجلاء عن الميكانزم الذي يقوم عليه جماع الاقتصاد الرأسمالي متمثلا في
فائض القيمة ولم يقف جهد ماركس عند حد التحليل العلمي للاقتصاد السائد‏,‏
وانما قدم للطبقة العاملة النظرية الثورية التي تستطيع بتبنيها واعتمادها
كسلاح طبقي ان تفك اغلالها‏,‏ وان تثور علي النظام الرأسمالي الذي يقوم
علي استغلال الانسان للانسان‏.‏

نشأ علم الاجتماع اذن وسط معركة
ضارية‏,‏ وقد تركت هذه المعركة بصماتها عليه وعلي التطورات اللاحقة في
ميدانه‏,‏ حتي يمكن القول إنه لايمكن فهم التيارات الحديثة والمعاصرة فيه
بغير الاستعانة بالمنهج التاريخي لاعادة تكوين صورة المجتمع الأوروبي طوال
القرن التاسع عشر بكل مكوناتها من صراع القوي السياسية‏,‏ واحتدام الصراع
الطبقي بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة‏.‏

كما انه لابد من
الاستعانة بمناهج علم اجتماع المعرفة‏,‏ لكي نربط الافكار والنظريات
الاجتماعية لاقطاب الفكر الاجتماعي في هذا العصر باتجاهاتهم السياسية
وأوضاعهم الطبقية من ناحية‏,‏ وببنية المجتمع من ناحية أخري‏,‏ وبغير ان
نخوض في غمار هذه الدراسة التي تحتاج إلي بحث مستقل‏,‏ يمكننا ان نجمل
الاتجاهات الرئيسية في نظرية المجتمع في القرن التاسع عشر في اتجاهين
رئيسيين‏,‏ وهما اتجاه التوازن واتجاه الصراع‏.‏

كان لاتجاه
التوازن رواد هم اقطاب الثورة المضادة في الفكر الأوروبي التي نشأت كرد
فعل للثورة الفرنسية‏,‏ وهؤلاء لم يكتفوا بشجب الثورة الفرنسية وما ترتب
عليها من تصدع المجتمع الفرنسي‏,‏ ولكنهم ـ ابعد من ذلك ـ نادوا بضرورة
العودة إلي الأوضاع السابقة علي الثورة‏,‏ اي بعبارة مختصرة احياء النظام
القديم الذي قضت عليه الثورة‏,‏ وهو النظام الاقطاعي‏!‏

وقد ورث
عالم الاجتماع الفرنسي الشهير اميل دوركايم ـ الذي ينسب إليه تأسيس علم
الاجتماع الحديث ـ تراث نظريات التوازن وحاول ان يضفي عليها السمة العلمية
الموضوعية واقام مشروعا علميا متكاملا يمكن توصيفه بأنه رد غير مباشر علي
الفكر الاشتراكي العلمي‏,‏ لانه قدم في الواقع ثلاث أفكار اساسية تعد نقضا
للافكار الماركسية‏.‏

الفكرة الأولي هي انه في اي مجتمع هناك ما
يطلق عليه الوعي الجمعي‏,‏ وهو ـ كما يعرفه ـ دور كايم‏:‏ مجموع المعتقدات
والمشاعر المشتركة بين معظم الاعضاء الذين ينتمون إلي مجتمع معين‏,‏ وتكون
هذه المعتقدات والمشاعر نسقا محددا من ضروب التشابه‏,‏ بحيث يصبح لهذا
النسق حياته الخاصة‏.‏

ويريد دور كايم في الواقع بفكرة الوعي
الجمعي الايحاء بأن ما يجمع اعضاء المجتمع اكثر مما يفرقهم‏,‏ وانه ليس
هناك سوي نمط واحد من المعتقدات والمشاعر يسود في المجتمع‏,‏ والغاية من
هذه النظرية ضرب فكرة الوعي الطبقي في الفكر الماركسي باعتبارها احدي
ادوات تحليله الاساسية‏,‏ ذلك ان فكرة الوعي الطبقي تقوم علي اساس التحليل
الطبقي للمجتمع‏,‏ بما يتضمنه ذلك من تصنيف للطبقات الاجتماعية
المتصارعة‏,‏ ورصد لعلاقات الصراع بينها‏,‏ وتحديد لنوعية الوعي الطبقي
لدي كل منها‏,‏ والذي يرتكز علي الايديولوجية الخاصة بكل طبقة‏.‏

اما
الفكرة الجوهرية الثانية عند دور كايم فهي التضامن وهو يفرق بين التضامن
الآلي الذي يسود في المجتمعات القديمة والذي يقوم علي اساس التماثل بين
اعضاء المجتمع‏,‏ والتضامن العضوي الذي يسود في المجتمعات المتقدمة‏,‏
والذي يقوم علي اساس التباين‏.‏

وهدف دور كايم ـ في تفسيرنا ـ من التركيز علي فكرة التضامن ضرب فكرة الصراع وهي من الافكار الاساسية في التحليل الاشتراكي العلمي‏.‏

والفكرة
الجوهرية الثالثة في نظرية دور كايم هي فكرة الجماعات المهنية التي اقترح
في الطبعة الثالثة من كتابه الشهير تقسيم العمل الاجتماعي انشاءها لحل
الصراع في المجتمع‏,‏ وهي تتشكل في رأيه من ممثلين للرأسماليين والعمال
والحكومة في تنظيم واحد للقضاء علي ما يسميه الانانية والشرور‏!‏ ومن
الواضح ان الغرض من هذه الجماعات المهنية ضرب فكرة الاحزاب الثورية
العمالية التي تمثل الطبقة العاملة والتي تقود نضالها ضد القوي
الرأسمالية‏.‏

واذا كان ما قدمناه يمثل لمحة اساسية عن اتجاه
التوازن في النظرية الاجتماعية الحديثة فإن ما يقابله هو اتجاه الصراع
الذي يرفض نموذج التوازن الذي يصوغ منظروه استراتيجية جماعة حاكمة ما
ويقوم بدور التأييد لقيمها ودوافعها‏,‏ ويلعب دور التبرير لكل الاجراءات
التي تلجأ إليها هذه الجماعة الحاكمة في إطار ما تطلق عليه زيادة فاعلية
وسائل الضبط الاجتماعي‏.‏

وإذا كان المجتمع بالنسبة لانصار اتجاه
التوازن عبارة عن نسق طبيعي فهو بالنسبة لمنظري الصراع عبارة عن صراع
سياسي محتدم بين جماعات متصارعة فيما بينها فيما يتعلق بأهدافها أو
بنظراتها الاجمالية للحياة‏.‏

ومنظر الصراع ـ اذا ما كان فوضويا ـ
قد يعارض اي فكرة تتعلق بثبات السلطة أو باستقرار النظام‏,‏ اما اذا كان
ماركسيا ملتزما فإنه لايعارض فكرة النظام في ذاتها‏,‏ ولكنه يتطلع
لتطبيقها في المستقبل بعد تحطيم المجتمع الطبقي‏,‏ واقامة المجتمع
الاشتراكي علي انقاضه‏,‏ وعلي ذلك فالنظام يمكن تحقيقه‏,‏ ولكن ليس
باصطناع وسائل الضبط الاجتماعي‏,‏ ولكن عن طريق اعادة التنظيم الاجتماعي
بصورة جذرية للحياة الاجتماعية كلها‏.‏

هكذا يتكلم تاريخ الفكر
الاجتماعي الحديث‏,‏ وهو يبرز الحقيقة التي مبناها ان الازمة الاقتصادية
العالمية الراهنة ليست إلا فصلا جديدا من فصول الصراع العنيف بين انصار
التوازن الذين يريدون الابقاء علي النموذج الرأسمالي بغض النظر عن سلبياته
وانصار الصراع الذين يريدون اعادة الصياغة الجذرية لهذا النموذج في ضوء
علاقة متوازنة بين واجبات الدولة في الرقابة علي الاقتصاد وحرية السوق
المطلقة‏!‏