شق النهار‏15‏ زورق المســـاء بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف هاواى الجمعة مارس 27, 2009 3:53 pm

شق النهار‏15‏

زورق المســـاء

بقلم : أسامة أنور عكاشة

كان
يعرف أنه قد سقط في هوة لاقاع لها وكان صعبا أن يتقبل هذه المعرفة
بسهولة‏..‏ بالتحديد لم يستسلم لها ويقر بها في أعماقه إلا في رحلة
الصحراء حتي لقد تبدت له أيامه في سجن العاصمة بعضا من حلم ثقيل أفاق منه
حين توقف قطار الواحات مع إشراقة شمس لا يوجد سواها في محيط النظر‏,‏ لقد
سبق له أن عاش في كنف الصحراء قبل ذلك في سنوات زواجه وإقامته في أسوان
وقبل أن يقبلوا طلبه للتعيين في جامعة حلوان‏..‏ أي أنه تطعم بمصل الصحراء
منذ زمن طويل‏,‏ لم يستغرب قط مرأي تفاصيلها بل كان إحساسه بتلك التفاصيل
إحساس عاشق يحفظ عن ظهر قلب ملامح فتاته‏,‏ وكان الأفق هناك هو نفس الأفق
المطل علي الجرود والكثبان تبدو السكينة والإحساس بالانتظار والحلم بشتي
الاحتمالات هي سره المفضوح‏.‏

قيل له حين هبط من السيارة اللوري
التي أقلته ومن معه من محطة القطار إلي موقع المعتقل أو المعسكر ـ كما كان
يسميه رجال الحراسة فيه ـ إن المكان يعبر عن حقيقة الحالة فليس هناك جدران
ولا أبراج حراسة ولا تغلق فيه أبواب أو بوابات وكان يسمع لأول مرة عن
المعتقل المفتوح الذي لا تحيطه أسوار ولا توجد به أي من وسائل تقييد
الحرية‏,‏ فقط يجب أن يكون مثل هذا الذي ألقوه فيه‏,‏ اللهم إلا إذا كان
من نزلائه من يمكنه قطع ثلاثمائة كيلومتر هي الطريق إلي أقرب مكان
مأهول‏,‏ وأجابت هذه المعلومات علي دهشته حين رأي المكان لأول مرة‏..‏
مجرد ثلاثة هناجر مبنية علي طراز معسكرات الجيش تديرها قوة من جنود الشرطة
يرأسهم ثلاثةضباط والمأمور كلهم مزودون بالسلاح الخفيف‏..‏

مجرد
بنادق آلية وعصي ودروع فض المظاهرات والتجمعات‏,‏ فيما بعد حين توطدت
علاقته بالرائد صلاح بدوي تفاخر أمامه بأن مصر هي ثانية دول العالم التي
تطبق نظام المعتقلات المفتوحة لم يكن سجنا بالطبع ولكنه أيضا لم يكن
منتجعا سياحيا أو مكانا للاستراحة والاستجمام ومعني المعتقل يكمن فيه بقوة
وجوهر أن يحرم الإنسان من ممارسة حياته كما يريد تتجلي في أيامهم به وكان
الفضاء الذي يسود الوجود في المكان يبدو أحيانا كتحد لفكرة الاعتقال في حد
ذاته‏.‏

كيف يستطيع أن ينجو بانتباهه للزمن؟ وكيف يبقي مرتبطا
بذكريات كل ما حدث في حياته حتي ذلك الصباح البائس الذي سلمه للغربان؟
كانت هذه معركته التي يجب عليه أن يتحمل مسئولياتها بكل قدرة لديه علي
المقاومة في حيز لا يزيد علي ثلاثة أمتار طولا وعرضا كان سريره والصندوق
الخشبي الذي يحمل متاعه التافه وكان يتوق إلي صورة لنهير يضعها بجوار رأسه
علي سطح الصندوق كان الكثير من الزملاء في العنبر يمتلكون صورا مثيلة
وضعوها في أطر أنيقة‏,‏ وتساءل ساخرا ألم يكن حريا به أن يتنبه لحكم
المصادفة ويأتي بصورتها معه ذلك الصباح؟ كان يفكر فيها طوال يومه حتي حين
يعمل في المزرعة التي جندوا أنفسهم اختيارا ليقضوا فيها نهارات الأيام
التي تمر‏..‏

ولا تمر أيام تتمدد متثاءبة علي فراش من أشواك نبتت
في أدمغة من يجرونها وقد تعلق نيرها بأعناقهم وإذا كانت الأيدي مغلولة إلي
الأعناق فماذا يستطيع من يجاهد ليبقي رأسه علي كتفيه قال له عباس بن درنكة
ما تهدش حيلك في الفكر يا ولد‏..‏ عديها تعديك وتوصلك كان عباس وارد رحله
أقدم‏,‏ وكان من شعراء العامية الذين حققوا قدرا معقولا من النجاح علي
مستوي الشهرة‏,‏ فقد كان معروفا لدي حلقة من زملائه والمتصلين به من
الملحنين وأهل المغني مع إني والله العظيم لا أكتب أغاني‏.‏

ـ أنت توثق انتماءك إلي الشعر والشعراء لذا تأنف من لقب كاتب أغان أو زجال‏.‏

ضحك
عباس بطريقته الصعيدية التي تجلجل في أرجاء العنبر لتلفت أسماع الغافلين
وتثير فضولهم لمعرفة ما الذي يضحك شاعر المعتقل الحزين‏.‏

ـ لماذا يسميك زمل المعتقل بالشاعر الحزين؟
ـ
تريد أن تشربني يابتاع مصر يا بندري‏..‏ اسمع ما سوف أقوله لك جيدا‏..‏ لا
يوجد شاعر بلا أحزان‏,‏ والشاعر الذي يتقافز علي كل الأسطح والفروع لكي
يغني مرحا هو شاعر مزيف وغير حقيقي‏..‏ أنا أحزن إذن فأنا شاعر‏..‏ هكذا
قال ديكارت‏.‏

ـ يا رجل ديكارت لم يقل حكمتك البليغة‏.‏

ديكارت لم يكن حزينا ليكون موجودا وإنما كان يشك فيفكر فيكون‏.‏

ـ
آه ثرثرة المثقفين الماركسيين إياها ولكن ما قولك في أني مثقف أكثر منك
وأعمق وأعظم؟ وتدور ساقية الكلام بلا توقف ولا يتدفق منها غير تحطيم كثافة
وتسلط ساعات الزمن الاعتقالي‏!‏

وحكاية الزمن الاعتقالي كانت
اختراعا خاصا بالمهندس عمانويل بطرس الذي تبين لشوقي بعد أيام قليلة أنه
كان منظر المجموعة دخلوا جميعا دفعة واحدة فاحتفظوا بأنفسهم بتكوينهم
التنظيمي‏.‏

قال له الرائد صلاح وهما يجلسان علي التبه الشرقية خلف
المعسكر في ليلة متعتمة عن زمن الحكي بشهور‏:‏ اسمه الثلاثي عمانويل زخاري
بطرس واحد من ألمع العقليات الهندسية في مصر وفي أي تخصص؟‏..‏ الهندسة
النووية‏!‏ وتكالبت عليه العروض المغرية من مختلف أنحاء العالم‏,‏ ولكن
عقيدته وقفت جحر عثره في طريق مجده‏.‏

مستهولا سألته‏:‏ تقول عقيدته؟ لعلك تمزح؟
أجاب صلاح وهو يهز رأسه مؤكدا‏:‏ لا أقصد طبعا عقيدته الدينية‏,‏ أقصد إنتماءه السياسي للفكر الماركسي اللينيني‏.‏

ـ
ماركسية لينينية؟‏!‏ أوقف لسانه قبل أن يسأله‏:‏ وما أدراك أنت بالماركسية
اللينينية ناقص تحدثني عن التروتسكية والماوية وتحريفية الرفيق تيتو‏.‏

ـ
وكأن صلاح قد حدس ما امتنع شوقي عن قوله فاستطرد مفسرا‏:‏ كثرة النوح تعلم
البكاء‏,‏ وقد عاشرت الماركسيين في هذا المكان ردحا من الزمن ولقيت نسخا
عديدة من الرفيق عمانويل بل وعرفت من هم أكثر باعا وأقوي عقيدة‏!.‏

احس شوقي بالمرارة‏:‏ كل ضيوف المعتقل جاءوا لقضية أو بسبب قضية فمن أجل أي شيء جاء هو؟
تبدت
أمامه حياته فارغة خاوية تدور أيامه حول نفسها لتتكرر في رتابة محزنة ولم
يملك نفسه من الانغماس في مشاجرة وصلت إلي حد التماسك بالأيدي وتبادل
الكلمات وأقذع ألفاظ السباب مع شاعر المعتقل الحزين حين اتهمه في أحد
المساءات الخريفية الباردة بأنه هو نفسه من أرشد عن شقيقه شهدي‏,‏ وأن
الخيانة تجري في دمه منذ كان صبيا‏..‏ اتضح من مسار المشاجرة أن الرفيق
عباس قد جمع معلومات كافية عن شوقي الذي لا يعرف من أين استقي صاحبه تلك
المعلومات‏.‏

ـ كل هذا الكلام هو ما واجهوني به في التحقيق‏,‏ وهي كلها أكاذيب وأوهام من يريدون تلبيسك قضية أمن دولة‏.‏

ضحك الشاعر الحزين وهو يواجهه‏:‏ وقد نجحوا‏..‏ أليس كذلك؟‏.‏