الثقافة العلمية ضرورة للتقدم الحضاري بقلم : د‏.‏ مصطفي النشار

من طرف **سهر الليالى** الأحد مارس 29, 2009 6:12 pm

الثقافة العلمية ضرورة للتقدم الحضاري
بقلم : د‏.‏ مصطفي النشار

كم
يتألم المرء حينما يري مجتمعه يسوده ثقافة التخلف بكل قيمها السلبية‏,‏
فأفراده في معظمهم يعيشون صباح ـ مساء ثقافة الأنامالية واللامبالاة‏,‏
الوصولية‏,‏ والمحسوبية‏,‏ الرشاوي والفساد المالي والاداري بكل صوره‏,‏
وهذه القيم السلبية هي نتيجة طبيعية لمجتمع غاب عن أفراده عناصر الثقافة
العلمية التي هي أساس ما أسميه ثقافة التقدم تلك الثقافة التي تكسب
أفرادها الموضوعية في القول والفعل‏,‏ تحكيم العقل في كل ما يصدر عنهم من
أحكام ومواقف‏,‏ الشفافية في الاعلان عن الرأي وفي كل ما يصدر عنهم من
أقوال وأفعال‏,‏ التخطيط العلمي الجيد لكل جوانب الحياة عملية كانت أو
علمية الادارة بالأهداف التي تعني تفعيل التخطيط العلمي في مجال
الادارة‏,‏ فلا يدير أحدهم مصنعا أو حتي مؤسسة علمية‏,‏ أو تربوية أو غير
هذه وتلك إلا في ضوء خطة عمل تحدد أهدافا بعيدة وقريبة المدي وتحدد آليات
دقيقة لتحقيق هذه الأهداف بصورة ترضي عنها معايير الأداء الجيد والمنتج
الذي تتوفر فيه كل مواصفات الجودة والاتقان‏.‏

ويخطيء من يظن أن
مناشدتنا الآن بضرورة التحول من ثقافة التخلف بقيمها السلبية إلي ثقافة
الجودة والتقدم بقيمها الايجابية الفعالة‏,‏ هو حديث وليد اللحظة‏,‏ أو هو
جديد علي مجتمعنا تأثرا بالنزعة السائدة الآن في كل أنحاء العالم النامي
بضرورة تطبيق معايير الجودة حتي نضمن الاعتماد لمنتجاتنا في كل مجالات
الحياة‏!‏ فالحقيقة أن المجتمع المصري في كل فترات ازدهاره كانت تسود بين
أفراده الثقافة العلمية بقيمها الداعية الي التقدم والاتقان‏,‏ وليس أدل
علي ذلك من النظر إلي تاريخ المجتمع المصري منذ التاريخ المصري القديم‏,‏

فقد
وضع الانسان المصري القديم العلماء في أعلي مكانة باعتبارهم صناع
التقدم‏,‏ فهذا هو اخناتون الملك المصري الذي حكم مصر في حوالي القرن
الرابع عشر قبل الميلاد يقول‏:‏ في بردياته التي اكتشفت في تل
العمارنة‏,:‏ إن العلم هو أول أركان الايمان بالخالق‏,‏ لقنه الله للانسان
بالخط والقلم‏,‏ وعن طريق المعرفة بالقراءة‏,‏ والكتابة يتفتح عقل الانسان
لتقبل علوم المعرفة المقدسة وينفتح قلبه للايمان بالخالق كما يقول أيضا
إذا أردت أن تورث ابنك ميراثا لايغني فورثة العلم ولتقارن ما يقوله
اخناتون منذ ذلك الامد القديم بما يفعله حكام العالم الاسلامي حينما كانوا
يزنون الكتب العلمية المترجمة إلي العربية ذهبا ويعطوه لمن ترجمها ولو كان
أعجميا غير مسلم‏!‏

ولتقارن بعد ذلك هذا وذاك بما نراه في مجتمعنا
المصري الآن من تدني لمكانة العلماء والعلم‏,‏ ومن تفشي ظواهر الخرافة
والعرافة‏,‏ ومن تدني لمكانة اللغة القومية في نظر أبنائها لدرجة احجامهم
الآن عن تعلمها وجعلها في المرتبة الثانية في تعليم العلوم‏.‏ ان كل ذلك
يعد في اعتقادي من مظاهر ثقافة التخلف التي يعاني منها مجتمعنا دون ارادة
من معظم أفراده وهم الغالبية‏,‏ لان المسئول الاول عن شيوع ثقافة التخلف
وتدني مكانة العلم والعلماء ومكانة اللغة العربية القومية إنما هم النخبة
في هذا المجتمع سواء كانوا النخبة المثقفة أو النخبة العلمية أو النخبة
السياسية‏.‏

ان النخبة هي المسئول الاول عن شيوع ثقافة التخلف
لانها لم تعمل منذ فترة علي الأخذ بأسباب وقيم ثقافة التقدم وتناست في
غمرة البحث وتحقيق مصالحها الآنية‏,‏ تناست أن المثقف والعالم والمفكر
والكاتب إنما هو ضمير الامة هو صاحب رسالة تنويرية في تثقيف مواطنيه وحثهم
علي التمسك بكل قيم التقدم العلمي‏.‏

لقد كانت النخبة المصرية في
مطلع عهد النهضة منذ عهد محمد علي وحتي قبيل قيام ثورة يوليو‏,‏ ثم في
فترة الستينيات من نفس الفترة مدركة لضرورة انتشار هذه الثقافة العلمية
وتشهد علي ذلك البعثات التي أرسلت في عهد محمد علي وأولاده إلي أوروبا
ويشهد علي ذلك تأسيس رفاعة رافع الطهطاوي لمدرسة الالسن وقيامه هو
وتلاميذه بترجمة عشرات الكتب‏,‏ ويشهد علي ذلك أيضا المجاملات والدوريات
والكتب التي حرص المترجمون علي نقلها عن كل لغات العالم الحديثة في مختلف
فروع العلم في هذه الفترات الزاهية من عصر نهضتنا الحديثة‏,‏

كما
يشهد علي ذلك أيضا قانون تنظيم الجامعات المصرية الذي أكد علي أن لغة
التدريس هي اللغة العربية‏.‏ فكان علي العائدين من البعثات الخارجية ترجمة
المؤلفات العلمية إلي اللغة العربية ليستطيع التلاميذ والدارسون قراءة هذه
العلوم باللغة العربية‏,‏ ولا أدري ما الذي حدث بعد ذلك فجعلنا ننسي كل
ذلك ونتغافل عنه مستسلمين لتيارات التغريب تغزو عقول علمائنا قبل أن تغزو
عقول طلابهم ومجتمعهم ؟‏!‏ ولا أدري كيف تم الاستسلام لمقولة خبيثة رددها
المتغربون تقول أن اللغة العربية ليست لغة علمية‏,‏ وليست قادرة علي
استيعاب وملاحقة المفردات والاصطلاحات والتطورات العلمية الحديثة‏!‏
والحقيقة أنها كانت ولاتزال لغة تتسع بكل تاريخها وامكاناتها الذاتية ليس
فقط لنقل واستيعاب العلوم الحديثة‏,‏ بل للابداع العلمي اذا ما أراد لها
أصحابها ذلك‏!‏ فهي كانت اللغة التي استوعبت كل العلوم القديمة إبان حركة
الترجمة الكبري في العصر الاسلامي الزاهي‏.‏

إن النخبة المثقفة
والعالمة هي المسئولة بالاشتراك مع النخبة السياسية ورجال الصناعة
والاعلام بالتوازي‏,‏ كلهم مسئولون عن إعادة اللغة العربية كلغة علم‏,‏
ولغة تنتشر بها الثقافة العلمية بين أفراد المجتمع جميعا وليس فقط بين
الباحثين العلمين ان الثقافة العلمية أو ثقافة العلوم هي علي حد تعبير
د‏.‏ سويف مجموع المعارف التي يحصل عليها غير المتخصص في فرع علمي
بعينه‏,‏ والتي تتناول أي فرع من فروع المعرفة العلمية المختلفة‏,‏
والمقصود بهذه الفروع كل ما يصنف تحت أي من البطاقات الأربع‏:‏ العلوم
الطبيعية‏,‏ والبيولوجية‏,‏ والسلوكية والرياضية‏.‏

إن هذه الثقافة
العلمية هي الحد الفاصل في عالم اليوم بين المجتمعات المتقدمة‏,‏
والمجتمعات المتخلفة‏,‏ وصدق العالم الامريكي ايريك بولك مدير المؤسسة
القومية للعلوم بالولايات المتحدة الامريكية حينما يقول إنه يجري علي
المجتمع الانساني في الوقت الحاضر تغيير جذري في بنيته‏.‏ وسوف تحسم نتيجة
هذا التغيير بقدر اعتماد كل بلد علي المعرفة العلمية ولنا أن نندهش من هذا
القول لعالم أمريكي في الوقت الذي نعرف جميعا أنه يقال في ظل مجتمع ينفق
علي البحث العلمي وعلي نشر الثقافة العلمية ما لايوازيه أي نسبة في أي
دولة أخري في العالم‏,‏ فما بالنا نحن نترك أنفسنا نهبا لثقافة أبعد ما
تكون عن الثقافة العلمية‏,‏ وما بالنا لانطمح إلي تغيير نمط هذه الثقافة
المتخلفة السائدة في مجتمعنا وتحويلها إلي ثقافة تقدم علمي‏!‏

والحقيقة
أنه مهما كانت الامكانات المادية ضئيلة ومهما كانت المعوقات أمامنا كثيرة
فلابد أن نمتلك ارادة جادة في توفير هذه الامكانات المادية بوسائل شتي
جديدة وعديدة بالاضافة إلي دعم الدولة الذي ينبغي بارادة سياسية جادة أيضا
وفاعلة أن يتضاعف عشرات المرات‏,‏ ولابد أن نمتلك في ذات الوقت خطة جادة
واضحة المعالم محددة الأهداف والادوات الدقيقة للقياس لتذليل جميع العقبات
للوصول إلي تحقيق هذه الطفرة المنشودة في صنع ثقافة العلوم واستنباتها
داخل مجتمعنا حتي نجد من نفس هذا المجتمع الدعم الكامل واللامحدود لصنع
بيئة وبنية علمية مواتية للابداع العلمي والانفاق علي المبدعين العلميين
بلا حدود‏.‏

والحقيقة أن لدينا العديد من هذه الخطط سواء في
المؤسسات البحثية الرسمية أو حتي لدي الافراد والكثير من هذه الخطط يعد
موضوعا أساسيا من موضوعات عشرات المؤلفات الفكرية والعلمية الصادرة عن
كبار علمائنا ومفكرينا لكن مجتمعنا لم يمتلك بعد الارادة الجادة لهذا
التحول نحو الثقافة العلمية‏,‏ وهذه الارادة توافرت الآن في ظل توافر
الارادة السياسية التي تنظر إلي قضية تطوير البحث العلمي ونشر الثقافة
العلمية وتطوير التعليم كقضايا أمن قومي‏.‏