سحر خليفة في ملحمة أصل وفصل بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

من طرف المريخى الإثنين مارس 30, 2009 4:29 pm

سحر خليفة في ملحمة أصل وفصل
بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

نواصل
قراءة الجزء الأول من رواية المبدعة الفسلطينية الكبيرة سحر خليفة أصل
وفصل‏,‏ التي تقع في‏456‏ صفحة‏,‏ وتقدم صورة بانورامية للمشهد الدامي
قبيل النكبة وما يحفل به من غليان سياسي ومشروعات صهيونية وحركات احتجاج
عربية سجلها الشعر في حينها وجاء دور الرواية لترسم ابعادها الكاملة عبر
سيرة أسرة قحطان بأبنائها وبناتها‏,‏ وزواج البدل الذي ربط بين فرعيها
الغني والمكافح‏,‏ وتحولات المجتمع ورياح التغيير السكاني والثقافي‏,‏ مع
عناية المؤلفة الخاصة بوضع المرأة العربية‏,‏ التي كانت تبدو في الظاهر
مقهورة وحبيسة منزلها وملبسها‏,‏ بينما هي في حقيقة الأمر حصن الحفاظ علي
هوية الوطن وتقاليده‏,‏ ومن ثم فإنها تورد علي لسان شخصيات تاريخية واقعية
شذرات من حوارات مهمة خلال الاجتماعات والمؤتمرات كاشفة عن هذه الابعاد‏,‏
فهذا الزعيم الشهير دكتور وايزمان يحذرالحاكم البريطاني الرضوخ لمطالب
المظاهرة النسائية التي تقودها ليزا قائلا‏:‏ يريدون استدرار عواطفكم‏,‏
لكن نساءهم مثل غيلان‏,‏ جنس قوي مثل الرجال‏,‏ لايغرنك الكلام اللطيف
والاختباء خلف الحجاب والستائر‏,‏ هؤلاء النساء مثل الشياطين‏,‏

اخرج
للقرية تعرفهن أقوي من الرجل واشرس‏,‏ لان القروية كالدابة تحبل وتلد
وتحمل الحطب وتحفر الأرض وتكسر الصخر ولاتتعب‏,‏ المرأة العربية
كالغولة‏,‏ جنس بلا رقة ولا أنوثة‏,‏ أما المنديل فهو خدعة‏,‏ ستار لإخفاء
ما خلفة‏,‏ ولاتنسي المؤلفة توثيق مصادرها في تأكيد هذه الصورة‏,‏ أما
عندما ترسم صورة الشباب العربي فهو يتراوح بين طرفين‏,‏ إما مترف ناعم
يهوي الموسيقي ويتخذ محمد عبد الوهاب مثلا اعلي له في اناقته وفنه وغوايته
للنساء‏,‏ وإما متدين يلتحق بشيخ الجبل ويتجند تحت امرته للجهاد المبكر‏,‏
ولعل أهم صورة عن فوارق المجتمعين العربي واليهودي تتضح من الفصل الخاص
بزيارة وحيد لـ كيبوتس عخشاف ومايجده فيه من نمط الحياة الاشتراكية ومظاهر
التقدم العلمي في الزراعة وجدية النساء العاملات كالرجال‏,‏ وخطورة
التخطيط الصهيوني لإقامة مجتمع العدل والكفاية في ظل التيارات
الإيديولوجية الفاعلة في تشكيل بنية المجتمع الجديد‏.‏

البنية المفتوحة‏:‏
نلاحظ
ان بنية الرواية المفتوحة تنطلق من تتبع خيوط مصائر أفراد الأسرة
المحدودين بمشاكلهم العائلية‏,‏ خصوصا وداد التي تهرب من بيت الزوجية
التعس بعد غواية الفتاة اليهودية لزوجها رشاد في محاولة للتحرر والاستقلال
بدورها‏,‏ والعمل مع الأستاذة ليزا المقدسية وحضور بعض الاجتماعات في
بيتها‏,‏ كما ينخرط اخواها وحيد المناضل وأمين الصحفي في الحياة العامة
بما يكشف عن تطور الوضع وما أصبح يعج في المجتمع الفلسطيني من مؤامرات
ومشروعات وثورات‏,‏ فالبيت العائلي لايلبث ان يصبح ايقونة للوطن‏,‏ وحياة
افراده تتحول تلقائيا إلي نماذج بليغة في تمثيلها الجمالي لكل القوي
المحركة للأحداث والتيارات المتصارعة خلفها‏,‏ لعل اخطرها حينئذ كان
التيار الذي يأمل في إمكان التعايش بين الفرقاء في ظل المشروع الصهيوني
العنصري الجارف‏,‏ وما اشبه اليوم‏,‏ بالبارحة في هذا الصدد‏,‏ فأمين مثلا
يحضر اجتماعا في الحامية العسكرية حيث يقولون ان يهودية تروتسكية من
كاليفورنيا اسمها روزا ماير‏,‏ وريثة السينمائي الثري مؤسس شركة مترو
جولدن تبرعت بملايين الدولارات لإقامة كلية تمريض كتكفير عن ذنب أسرتها في
تقديم الدعم غير المشروط للوكالة اليهودية‏,‏

وان مادفع روز لفعل
ذلك هو ماسمعته عن مشروع اليهودي العراقي الراحل خضوري الذي كان قد نذر
مبلغا ضخما لإقامة كلية زراعية للطرفين يقيم فيها الطلاب العرب واليهود
دون فصل أو تمييز يتعلمون فيها أحدث أساليب الزراعة وانجعها لتصبح فلسطين
جنة للجميع فيكون المشروع قدوة للتعاون‏,‏ لكن المشروع فشل لأن الوكالة
اصرت علي الفصل فوزع المبلغ علي كليتين واحدة في طولكرم للعرب والأخري
لليهود في مستعمرة كفار طابور‏,‏ وبذلك تم تكريس الفصل بدلا من التعايش
وتعميق الجفاء بدلا من الرجاء‏.‏ ولايلبث مشروع ماير بدوره ان يلقي المصير
ذاته‏,‏ لكن الرواية تقدم لنا تفاصيل المناورات الماكرة الصهيونية
لاحباطه‏,‏ علي الرغم من تحمس الحاكم العسكري البريطاني له ليختم به حياته
وتشجيعه للمناضلة العربية الشجاعة ليزا كي تقوده وتعمل علي نجاحه‏,‏ وأبرز
مايلفت النظر في هذا السياق هو قدرة الكاتبة الباراعة علي توظيف التفاصيل
الإنسانية في تجسيد استراتيجية التمييز في الفكر الصهيوني والعناد في
احباط القوي المناهضة له‏.‏

شيخ الجبل‏:‏
رسمت
سحر خليفة في هذه الرواية مناخ العجز والتشرذم الذي اصاب القوي العربية
أمام حركة الصهاينة المدروسة بدقة وإحكام‏,‏ وركزت علي موقف وحيد‏,‏ الابن
الأكبر للأسرة‏,‏ وكيف اجتذبه شيخ الجبل المناضل إلي صفه‏,‏ كما اجتذب بعض
المتمردين والخارجين علي القانون مثل الزيبق الذي كان يتحلي بالرقة‏,‏
ووضع خطة تبدو جيدة بعد الحصول علي بعض الأسلحة والاعتصام بجبل الكرمل
تبدأ الخطة باحتلال حيفا والميناء وثكنات الجيش لتحقيق مكسب مبهر يجر
الزعماء والأحزاب للانضمام إليهم وإقناع الشعب ان استنزاف بريطانيا غير
مستحيل‏,‏ لأن الاستيلاء علي حيفا وهي الاهم والاغني سيحفزهم‏,‏ أما
التنفيذ فيكون موزعا علي ثلاث مراحل‏:‏ الأولي‏:‏ تبدأ بالخروج إلي القري
لاستقطاب الفلاحين وتهيئة الجو لحرب عصابات‏,‏ والثانية‏:‏ تبدأ
بالاستيلاء علي باخرة للحصول علي أسلحة تكفي لمهاجمة ثكنات الجيش‏,‏ في
المرحلة الثالثة‏:‏ وحين يبدأون الهجوم المضاد بمجيء الدبابات والطيارات
المدعوم بفرق اليهود ينسحبون إلي الجبال ويندسون بين الفلاحين ويعلنون
الثورة وحرب العصابات‏,‏ حتي يسمع العرب بما ابلي المجاهدون الفلسطينيون
ويرسلون الإمدادات لتمتد الثورة حتي المغرب العربي‏.‏

لاتكاد
المجموعة تتشكل وتجمع المؤن والذخيرة وتعتصم بالجبل حتي ينشق الزيبق خارجا
عن الخطة ويغتال ضابطا يهوديا في إحدي المستعمرات فيتم حصار الثوار وقتل
زعمائهم ولاينجو منهم سوي وحيد الذي يحمل الزيبق أيضا علي صهوة حصانة
ويهرب إلي نابلس ليتختبئ في سرداب منزلهم‏,‏ ويشهد اخوه أمين مع عدد من
الصحفيين والمراسلين شوارع حيفا وهي خالية حدادا علي الشيخ ورفاقه الذين
تحمل جثامينهم إلي المسجد بالرغم من السلطات وتجتمع الألوف الهائجة
لتوديعهم في جنازة مهيبة ستصبح من تقاليد النضال الفلسطيني‏,‏ لكن المشهد
الأخير في هذا الجزء الأول من رواية سحر خليفة لم يقف عند ثورة شيخ
الجبل‏,‏ بل انتقل إلي بيت ليزا‏,‏ التي كانت تستضيف الحاكم الإنجليزي
المتعاطف سرا مع العرب للاحتفال بالكريسماس وتشن غارة هوجاء تطفأ فيها
الأنوار لتنطلق رصاصة من إحدي النوافذ وتصيب الحاكم بالرغم من وجود حراسة
بالخارج‏,‏ وتنتهي الصفحات دون ان تتم فصول الرواية ويظل علي القارئ ان
يلتقط انفاسه حتي تدور عجلة السرد مرة أخري في الجزء الثاني‏.‏