حــــول الكتابــــة بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف الجارح الثلاثاء مارس 31, 2009 4:50 pm

حــــول الكتابــــة
بقلم : إبراهيم أصلان

مازلنا
برفقة السيد الأمريكي إرنست همنجواي‏1899‏ ـ‏1961‏ ونظريته التي أكدت
أهمية أن يحذف الكاتب من قصته الكثير من الوقائع والمعلومات‏,‏ مادام يعرف
ما يحذفه معرفة جيدة‏.‏ وبنص كلماته‏:‏ إذا كان الجزء المحذوف قد حذفه
الكاتب لأنه لا يعرفه‏,‏ يكون عمله لا قيمة له‏,‏ إنما الأشياء المهمة
التي يعرف الكاتب عنها الكثير ويحذفها‏,‏ هي ما تمنح قصته قوة‏,‏ مادام ما
يحذف سوف يظل موجودا كاحساس وراء القليل الذي يكتب‏.‏

ولكن ما معني
هذا الكلام؟ وأين تذهب هذه الأجزاء المحذوفة والتي لا تكتب؟ وكيف لها‏,‏
هي الغائبة أن تمنح العمل غوره وغناه وقدرته علي التأثير‏.‏

الإجابة
عن هذه الاسئلة تصبح ممكنة أكثر إذا عدنا إلي إشارات همنجواي القديمة
والمتكررة حول جبل الجليد العائم‏,‏ ذلك الوقور في حركته‏,‏ والذي لا
يكتسب هذا الوقار إلا لأن ثمنه فقط فوق سطح الماء‏.‏

وهو عندما قال
ذلك‏,‏ قبل نصف قرن أو يزيد‏,‏ فإنه كان يتحدث عن أحد أهم المبادئ التي
عمل علي هداها وظل مخلصا لها طيلة حياته‏,‏ والتي أقام عليها عمله القصصي
كله‏,‏ وعند جبل الجليد هذا نتوقف قليلا‏.‏

لقد كانت اقاصيصه
القصيرة هو الذي عالج أدق مشكلات التعبير وتمرس بها‏,‏ خادعة‏.‏ فالقصة
التي نقرأ هي أشبه بهامة ذلك الجبل هي الثمن وما تم استبعاده من أحداثها
هو أشبه بالسبعة أثمان المغمورة تحت سطح الماء‏.‏ وهذا المغمور حاضر بقوة
برغم غيابه‏,‏ فالكثير الذي استبعدناه ولم نكتبه‏,‏ تحول إلي احساس كتب به
القليل الذي كتبناه‏.‏

فالتجارب الحقيقية في حياة الناس مراوغة
وموجعة وعصية غالبا علي التعبير‏,‏ ونادرا ما وجدت الكلمة أو درجة اللون
أو النغمة التي يمكن أن تكافئها تماما‏,‏ ولكن إذا لم نكن قادرين علي
الكتابة عن هذه الأوجاع‏,‏ فإننا قادرون دائما أن نكتب بها‏.‏ لقد تحولت
الأوجاع إلي طبقة صوت بوسعها أن تحكي عن أشياء غير موجعة فتوجعنا‏.‏
والمثال القريب هنا أننا بدلا من الكتابة عن العدل‏,‏ مثلا نتعلم كيف نكتب
بعدل‏.‏
‏
***‏
وكنا وقفنا نودع
صديقنا الشاعر وكنت أعرف أن لديه ما يقوله لصديقنا الواقف إلي جواري‏,‏
إلا أنه مد يده وصافحني علي عجل وصافح صاحبنا قائلا‏:‏ طيب سلام‏.‏

وبعد ما ابتعد سألني صاحبي وهو غاية في القلق‏:‏
تفتكر عرف؟
قلت لا أظن
قال‏,‏ والله عرف‏.‏ أنت لم تنتبه للطريقة التي قال بها‏:‏ طيب سلام‏.‏

إنها
النبرة‏.‏ لقد تحولت الحكاية التي أراد الشاعر أن يحكيها السبعة أثمان
المغمورة الي نبرة‏,‏ قال بها طيب سلام هكذا أصبحت الحكاية الغائبة هي
الحالة والمشهد‏,‏ ولم تعد طيب سلام ذات قيمة إلا بوصفها تجسيدا لهذه
النغمة‏,‏ وهذه هي الطبيعة اللحنية للقصة القصيرة‏,‏ حسب كونديرا‏,‏
وماقال‏.‏