أين نحن من الشعر؟‏!‏ بقلم : أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف ktkt الأربعاء أبريل 01, 2009 11:04 am

أين نحن من الشعر؟‏!‏
بقلم : أحمد عبدالمعطي حجازي

هل نحن قادرون علي أن نكون شعراء؟
وأنا
بهذا السؤال أواصل الحديث الذي بدأته يوم الأربعاء الماضي‏,‏ وميزت فيه
بين حاجتنا للشعر وقدرتنا عليه‏,‏ وقد بينت في حديثي السابق أن الشعر
بالنسبة لنا ولغيرنا من البشر حاجة أساسية وحيوية‏,‏ لأنه الفن الذي يجعل
اللغة ممكنة‏,‏ أي مطلوبة ومؤدية وفاعلة‏,‏ وبغير اللغة لا يكون شعر‏,‏
ولا يكون مجتمع‏,‏ ولا تكون معرفة‏,‏ ولا تكون حياة‏.‏

فإذا كانت هذه هي حاجتنا للشعر فأين نحن منه اليوم؟
هل
ننتج من الشعر ما يلبي هذه الحاجة؟ وهل لدينا القدرة علي أن نقوله ونتلقاه
ونتذوقه؟ واذا كانت القدرة تعني أول ما تعني الاستعداد الطبيعي فهل نملك
هذا الاستعداد؟

والسؤال مطروح‏,‏ لأن انقطاعنا عن لغتنا المصرية
القديمة أدي الي انقطاعنا عن شعرها الذي لم نكتشفه إلا علي يد الأجانب
الذين توصلوا لكشف أسرار الهيروغليفية ومعرفة أصواتها وفهم معانيها‏,‏
ولأن لغة الفاتحين العرب ظلت عدة قرون بعيدة عنا‏,‏ وكانت بالنسبة لنا لغة
دين في المقام الأول‏,‏ ولم تصبح لغة شعر وأدب إلا في العصور الحديثة‏,‏
مما أدي الي تأخير مساهمتنا في تراثها الأدبي‏,‏ وأغري البعض بالتشكيك في
قيمة هذه المساهمة‏,‏ بل بالتشكيك في شاعرية مصر كلها‏.‏
‏
***‏
لكن
التراث المصري القديم والحديث يكذب هؤلاء‏,‏ يكفي أن نقرأ شيئا مما قاله
أجدادنا في العالم الآخر‏,‏ أو في الخضرة والنور‏,‏ أو في الغناء للشمس‏,‏
أو في تمجيد القلب الإنساني لندرك عظمة الشعر المصري القديم الذي لايزال
مجهولا الي حد كبير‏.‏

قلب المرء إلهه
ولقد كان قلبي راضيا عني‏!‏

ولا
يقل عظمة عن تراثنا القديم تراثنا العربي الذي أحييناه في هذا العصر‏,‏
وجددناه‏,‏ ووصلناه بالتراث العالمي‏,‏ وصبغناه بصبغتنا‏,‏ وأنطقناه
بلهجتنا سواء كتبنا بالفصحي أو بالعامية‏,‏ وأضفنا إليه أشكالا ورؤي
وخبرات وتجارب فكرية وفنية لم تكن فيه‏.‏ ونحن ننظر فيما قدمه شعراؤنا في
هذا العصر من الكلاسيكيين الجدد‏,‏ والرومانتيكيين‏,‏ والمجددين علي
اختلاف أجيالهم فنجد أننا أنتجنا في قرن واحد كميا ونوعيا ما لم ينتجه
غيرنا في قرون‏.‏
‏
***‏
ولقد كنت أنظر حولي في سنوات الصبا فيخيل لي أن المصريين جميعا شعراء‏.‏

كان
الشعر حاضرا في منزلنا‏,‏ فالوالد يقتني بعض الموسوعات القديمة‏,‏ وديوان
حافظ‏,‏ ويحفظ أبياتا مختارة يستشهد بها في المناسبات‏,‏ والوالدة لا تكف
عن تذكر اخوتها الراحلين بما تحفظه من بكائيات تمزق القلب‏,‏ والفلاحون
ينشدون مواويلهم وهم يعملون في الحقول‏,‏ وحتي وهم يعتلون ظهور الحمير‏,‏
أما عبده أفندي درويش فهو شاعر المناسبات الذي يتقدم الصفوف في الاحتفال
السنوي الذي كان يقام في بلدتنا بذكري سعد‏,‏ في الثالث والعشرين من شهر
أغسطس‏,‏ وعبده أفندي درويش هو شقيق الشاعر الراحل سعد درويش‏,‏ وفي تلك
السنوات التي أتحدث عنها‏,‏ أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات‏,‏ كنت
أتردد علي المقهي فأجد عددا من رواده يتبارون في إنشاد أشعار كامل
الشناوي‏,‏ والعقاد‏,‏ وإيليا أبو ماضي‏,‏ وعبدالحميد الديب الذي كان
يتمتع عندنا بشهرة خاصة لأنه نشأ في قرية في المنوفية لا تبعد عن قريتنا
إلا بضعة كيلومترات‏,‏ وعندما بدأت النظم في أوائل الخمسينيات كان قد
سبقني إليه اثنان علي الأقل من أبناء جيلي أو يكبرانني بعامين أو ثلاثة‏,‏
وكان لأحدهما فضل كبير في توجيهي وتنبيهي لما كنت أقع فيه من أخطاء‏,‏
ولقد كان هذا الانطباع عن شاعرية المصريين يتأكد في
كل طور جديد من
أطوار حياتي‏,‏ فمدرسة المعلمين في شبين الكوم حافلة بالشعراء من الطلاب
والأساتذة‏,‏ ومقاهي القاهرة‏,‏ ودار روزاليوسف التي بدأت فيها حياتي
العملية مع صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين‏.‏

هذا هو استعدادنا الطبيعي للشعر‏,‏ فأين نحن منه الآن؟
‏
***‏
هل
تساعدنا ثقافتنا الراهنة علي أن نعرف للشعر مكانه المؤثر في الحياة
الإنسانية؟ وهل تستطيع هذه الثقافة أن تكتشف المواهب الشعرية الجديدة
وتمدها بما يلزمها من المعارف والحوافز والخبرات التي تؤهلها لمواصلة
الانتاج في هذا الفن بما يتفق مع روح العصر وحاجاته‏,‏ دون أن ينقطع عن
تراثه الحي أو يتنكر له؟ وهل في وسع هذه الثقافة أن تزود فن الشعر بجمهور
مثقف متابع متحمس قادر علي أن يقرأ ويسمع ويفهم ويطرب ويتذوق ويميز بين
الجيد والرديء‏,‏ وبين الشاعر والشعرور؟‏!‏

لكي يكون الجواب عن هذه
الأسئلة بالإيجاب نحتاج لتربية لغوية صارمة تتكامل جوانبها ومراحلها‏,‏
ولا تنهض بها المدرسة وحدها‏,‏ بل تسهم فيها أجهزة الإعلام والثقافة
وتراقبها الدولة والمجتمع كله‏,‏ فاللغة القومية هي الأمة‏,‏ والذين
يفقدون لغتهم يفقدون أنفسهم‏.‏

ونحن نحتاج في نشر الشعر وتقديمه للقارئ ونقده لمنابر مختلفة متنوعة تدار بكفاءة فنية وضمير حي‏.‏

ونحتاج
أخيرا لنقاد مثقفين موهوبين أمناء يستطيعون أن يقرأوا لغة الشعر ويكشفوا
أسرارها ويضعوا أيديهم علي ما فيها من خصوبة ومهارة وتفرد وجمال‏.‏

هل
ترون أن هذه الشروط متحققة؟ هل نوفر لأجيالنا الجديدة هذه التربية اللغوية
الصارمة؟ وهل نملك منابر النشر الضرورية؟ وهل لدينا هؤلاء النقاد؟