علي الجارم‏:‏ فصل الخطاب‏(2)‏ بقلم : فاروق شوشة

من طرف سامح المسامح الأحد أبريل 05, 2009 4:33 pm

علي الجارم‏:‏ فصل الخطاب‏(2)‏
بقلم : فاروق شوشة

الدكتور
احمد علي الجارم الاستاذ المتفرغ بكلية الطب جامعة القاهرة وعضو مجمع
اللغة العربية يؤرقه الظلم الذي وقع علي أبيه‏,‏ فيصدر مؤخرا هذا الكتاب
شاعر العروبة الكبير علي الجارم‏:‏ فصل الخطاب عن الدار المصرية
اللبنانية‏.‏ قدم للكتاب الدكتور الطاهر أحمد مكي أستاذ الدراسات الأدبية
وعضو مجمع اللغة العربية الذي يصف الجارم بأنه كان ـ بعد وفاة شوقي ـ رأس
شعراء العربية في عصره دون نزاع‏,‏ التقت عنده كل الإمكانات التي تجعل منه
شاعرا فردا‏,‏ ويقسم الدكتور احمد الجارم كتابه عن ابيه الي فصول تتناول
شاعرية الجارم من المهد الي اللحد‏,‏ ومؤامرة الصمت والتعتيم عليه‏,‏
والحاقدون علي الجارم في حياته‏,‏ ومظاهر التكريم للشاعر الكبير ومن بينها
تقديم العقاد لديوانه وحديثه عن المدرسة الدرعمية التي كان الجارم نجم
نجومها‏,‏ ورثاء العقاد له عند رحيله عام‏1949,‏ وهو الرثاء الذي يقول
عنه‏:‏ وارث الأصمعي في لغة الضاد‏,‏ وفي الشعر وارث البحتري‏,‏ والأديب
الذي له فطنة المصري زانت سليقة البدوي‏,‏ والمربي الذي تعهد جيلا عهد علم
منه وعهد رقي‏,‏ واخو النشأتين شرقا وغربا من قديم باق ومن عصري‏.‏

فإذا
ما جئنا الي تنافس الشعراء الثلاثة‏:‏ الجارم وعلي محمود طه ومحمود حسن
إسماعيل علي خلافة شوقي وملء الفراغ من بعده‏,‏ وجدنا الجارم أقرب الثلاثة
الي فن شوقي ونسيجه الشعري‏,‏ واتكائه علي الموروث الشعري وحرصه علي فصاحة
لغته ونضارتها‏,‏ أما الآخران فكانا يحلقان في فضاء شعري مغاير واجواء
شعرية مغايرة‏,‏ تأثرا فيها بانتمائهما ـ وجدانا وفكرا ـ إلي جماعة أبولو
وشعر المهجريين وترجمات الشعر الرومانسي ـ الانجليزي والفرنسي ـ إلي
العربية‏,‏ وحرصهما علي أن يكون لكل منهما مذاقه الخاص ومعجمه الشعري
المختلف طبقا لتكوينه ونشأته وعالمه الشعري‏.‏ وإن كان شعر الجارم نفسه ـ
بالرغم من جهارته واصطباغه بالطابع الإحيائي الذي ساد شعر شوقي وحافظ
واسماعيل صبري وغيرهم ـ كان لا يخلو من أنفاس ر ومانسية وأقباس مشعة
صنعتها سنوات البعثة في انجلترا بين عامي‏1912,1909‏

وهو ينهل من
مناهل الثقافة الأجنبية ويتخصص في علوم التربية وعلم النفس وتملؤه مشاعر
الحنين الي الوطن وهو بعيد عنه‏,‏ والحنين الي أيامه في البعثة وذكرياته
عنها بعد عودته الي الوطن‏,‏ فاذا به ينافس الرومانسيين وهو يقول‏:‏ طائر
يشدو علي فنن‏,‏ جدد الذكري لذي شجن‏/‏ كان لي إلف فأبعده‏,‏ قدر عني
وأبعدني‏/‏ أنا مد الدهر أذكره‏,‏ وهو مد الدهر يذكرني‏/‏ من لدنه الود
أخلصه‏,‏ والوفا والطهر من لدني‏/‏ وظننا أن نعيش به‏,‏ عيشة المستعصم
الأمن‏/‏ فرمت كف الزمان به‏,‏ فكأن العش لم يكن‏/‏ طار من حولي وخلفني‏,‏
للجوي والبث والحزن‏/‏ ومضي والوجد يسبقه‏,‏ ودموع العين تسبقني‏/‏ قد
نعمنا بالهوي زمنا‏,‏ وشقينا آخر الزمن‏.‏

والواقع أن حديث العقاد
عن المدرسة الدرعمية في الشعر وإن تكن له وجاهته وأسانيده إلا أنه ليس حدا
جامعا مانعا كما يقول المناطقة‏.‏ فقد كان لكل شاعر حقيقي من شعراء هذه
المدرسة سمته وعالمه ومغامرته الشعرية الخاصة جدا والبعيدة عن عالم أقرانه
ونظرائه ـ فلم يكن شعر محمود حسن إسماعيل يشبه شعر الجارم‏,‏ أو شعر علي
الجندي‏,‏ ولم يكن شعر أحمد مخيمر يشبه شعر طاهر أبو فاشا أو عبد العليم
عيسي‏,‏ ولا شعر فوزي العنتيل يشبه شعر محمد الفيتوري‏(‏ الذي ينتمي إلي
هذه المدرسة بدوره‏)‏ ولا شعر عبده بدوي وهكذا‏.‏

لكنهم جميعا‏,‏
وعلي اختلاف مشاربهم‏,‏ اهتموا بأن تكون لغتهم الشعرية موضع اهتمامهم
باعتبارها قدس الأقداس في الشعر‏,‏ فليس هناك شعر خارج اللغة‏,‏ واللغة في
الشعر ليست إطارا ولا وعاء ولا شكلا‏,‏ ولكنها الشعر نفسه ذائبا وملتحما
بكل ما يقذفه الوجدان من حس وفكر‏,‏ وقدرة نافذة علي التأمل والاستبطان
والاستغراق‏,‏ واختراق المحدود إلي اللامحدود‏,‏ وعندما تبدأ هشاشة
اللغة‏,‏ وعجمتها‏,‏ واضطراب سياقها وتراكيبها‏,‏ أو نشوزها ووحشيتها
وغربتها‏,‏ يغادر الشعر الحقيقي وتجف روحه وتذوي أعواده‏,‏ ويصبح الكلام
المصوغ في مثل هذه اللغة كلاما سائبا‏:‏ نثرا ركيكا‏,‏ أو نظما سخيفا
ميتا‏,‏ لا روح فيه ولا جمال‏.‏

لقد صاغ الدكتور أحمد الجارم كتابه
عن أبيه في اطار عاطفي شديد الحماس والانتصار لشعر أبيه وهو حماس يقترب في
بعض الأحيان من روح التحدي وشئ من التجاوز‏.‏ لكن عذره أن إيمانه بشعر علي
الجارم وتقديره الكبير لشاعرية أبيه ومنزلته ومكانته بين شعراء عصره وراء
هذا التحدي وهذا الحماس‏.‏ من هنا فقد راح يكيل الاتهام بعد الاتهام
لثلاثة من الحاقدين ـ في رأيه ـ الدكتور طه حسين والدكتور زكي مبارك
والدكتور بشر فارس‏,‏ علي ما بينهم من تباين واختلاف‏,‏ متحدثا عن أحقاد
دفينة وأمراض نفسية‏,‏ وكأنه يترك موقعه استاذا لأمراض القلب والصدر ليصبح
أستاذا في الطب النفسي والأمراض العصبية‏.‏

فهو يتحدث عن حالات
نفسية ضاغطة وفقدان التوازن النفسي والإصابة بعقدة الاستعلاء عند هؤلاء‏.‏
وهو بهذا الكتاب يكمل ما بدأه عندما نهض بإعادة طبع ديوان الجارم في طبعات
متتابعة‏,‏ وكتاب جارميات الذي يضم مقالاته وبحوثه الأدبية واللغوية‏,‏
وكتاب سلاسل الذهب الذي يضم مؤلفاته من القصص التاريخية‏,‏ بالإضافة إلي
كتابين هما‏:‏ الجارم في ضمير التاريخ والجارم ثائرا‏,‏ وكتاب ثالث هو
الجارم ناثرا الذي صدر في عام‏2006,‏ وهو جهد ضخم‏,‏ أراد به الدكتور أحمد
الجارم أن يشارك ويدعو إلي إنصاف أبيه عندما وجد تنكرا وجحودا‏,‏ وصمتا عن
شعره الذي كان يؤهله ـ في رأيه ـ لخلافة شوقي‏,‏ وهو ـ أولا وأخيرا ـ وفاء
نادر بين أهل الزمان من ابن نابغ لأبيه العظيم‏.‏