الشعار المغلوط‏!‏ بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

من طرف سمير الإثنين أبريل 06, 2009 3:48 pm

الشعار المغلوط‏!‏
بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

عندما
مات أبواه‏,‏ وأصبح الطفل إيفان يتيما‏,‏ ولأنه لم تكن هناك من مؤسسات
حماية اجتماعية تضطلع بمسئوليته‏,‏ ترفع عنه المذلة والمهانة‏;‏ لذا كفله
بدافع الشفقة أخمنيف‏,‏ أحد صغار الملاك في الريف الروسي‏,‏ حيث كانت
تتكون أسرته من آنا زوجته‏,‏ وابنته ناتاشا‏,‏ التي تأسست بينها وبين
إيفان علاقة حب‏.‏ صحيح أن الحب لا يقاس لا بأسبابه ولا بنتائجه‏,‏ لكن
الصحيح كذلك أنه ليس هناك أتعس من العيش مع الأفكار المغلوطة‏.‏ تراه حقا
كان حبا؟ غادر إيفان القرية‏,‏ مودعا أسرة أخمنيف متجها إلي مدينة
بطرسبرج‏,‏ وهو في السابعة عشرة‏,‏ استكمالا لتعليمه الجامعي‏.‏ بعد
تخرجه‏,‏ رفض إيفان الوظيفة‏,‏ وامتهن الكتابة‏,‏ وشق طريقه في المدينة
بوصفه كاتبا روائيا في مستهل حياته‏.‏ كان ذلك هو مشروع وجوده‏,‏ لم يتح
لمشروع غيره أن يبتلع خياره‏,‏ ولم يسمح لفراغ أن يشل تفكيره‏,‏ ولم يغره
كسل عن منجزاته‏.‏ صحيح أن الرغبة قد تكون متسقة مع إمكانات صاحبها‏,‏ لكن
الصحيح أيضا أنها قد لا تكون بعيدة عن كل تهديد أو خطر‏.‏ تري هل واجه
إيفان أحابيل أو متلهيات شكلت تهديدا ينسف مشروع حياته؟

أما ما
يحكيه التاريخ الآخر الموازي زمانا ومكانا‏,‏ الذي يخص أسرة أخمنيف في
القرية من بعد رحيل إيفان‏,‏ أنه قد وصل إليها الأمير بطرس‏,‏ الذي يمتلك
أرضا شاسعة بها‏,‏ عازما علي طرد وكيله من إدارة ممتلكاته بعد اكتشافه
استهتاره‏.‏ كان الأمير لا يـعرف له وجه حقيقي من كثرة الأقنعة التي يتوهج
بها‏,‏ حاجبا بها غشه‏,‏ وكذبه‏,‏ وخداعه‏,‏ حيث يبدو وسيما وذكيا وغنيا
ومرحا‏,‏ وكان أرمل‏,‏ إذ نتيجة فظاظته وغلظته ماتت زوجته الدميمة
الجاهلة‏,‏ ابنة تاجر الخمور التي تزوجها ولم يكن يمتلك شيئا‏,‏ طمعا في
مالها ليسترد به خسارات ممتلكات أسرته‏,‏ ثم أنجب منها ولدا‏,‏ تخلي عن
مسئوليته تجاه مصيره‏,‏ فلم يباشر تربيته أو يتابعها‏,‏ إلا عندما أصبح
يمثل له أداة استزادة في الحصول علي المال‏.‏

تري أي زمن تراجيدي
عاشه وسوف يعيشه هذا الولد اليتيم الأم والمنفي بهجران الأب؟ كان رهان
الأمير بطرس أن يعيش في دعة واستقلال أوسع من أي تحديد‏,‏ تباح فيهما له
ممارسة كل اشتهاءاته من مغامراته ومقامراته وعلاقاته‏,‏ وألا ينفلت شيء من
احتيازه‏.‏ تري ألا يعني ذلك تمردا مزاجيا يقود إلي ضمور العنصر
الإنساني‏,‏ يستهدف بالأساس التحرر من البناء الاجتماعي ومسئولياته؟ راح
الأمير يستطلع أحوال جيرانه والتعرف إليهم‏,‏ وزار أقرب جيرانه أخمنيف
وأسرته‏,‏ فقابلوه بحفاوة بالغة‏,‏ وتردد كثيرا إليهم‏,‏ وصادقهم مغاليا
في تودده ورقته‏.‏ تري هل تبرر المجاورة كثرة زياراته‏,‏ وتفسر كذلك
مجاهرته بلطف مشاعره‏,‏ أو أنه يروج لمطلب قادم يستمد استجابته من اقتداره
استخدام أقنعته ولسانه؟ لقد تيقن الأمير من أمانة أخمنيف وكفاءة إدارته
لأرضه‏,‏ لذا طلب إليه أن يتولي إدارة أملاكه‏;‏ تعزيزا لمركزه المالي‏,‏
فقبل الرجل المستقيم النزيه النبيل أخمنيف عرضه‏,‏ بل آمن بصداقته
وأخوته‏.‏ سافر الأمير بعد ذلك للعمل بالخارج في إحدي السفارات‏.‏

انقضت
سنوات ازدهرت خلالها أملاك الأمير وتصاعدت‏.‏ عاد الأمير بعد عدة سنين إلي
بطرسبرج‏.‏ كتب إلي أخمنيف رسالة ودية يشتكي فيها من ابنه وسلوكه‏,‏ مقررا
إرساله إلي الريف ليقضي فترة تحت إشراف أخمنيف وزوجته‏.‏ وصل الأمير الشاب
أليوشا‏,‏ الذي مازال طفلا بمزاج متقلب رجراج‏,‏ مع أنه في الثامنة عشرة
من عمره‏,‏ ذاتي الانهمام‏,‏ مفرط العصبية والحساسية‏,‏ عنيف حار القلب‏,‏
باهت الإرادة مفتقد لها‏.‏ وترددت بوصوله الشائعات عن حماقاته ومغامراته
ومقماراته وطيشه وخساراته‏.‏ لكن أليوشا دوما كان يعاود سرد حكاية دالة عن
درامية الحياة مع أبيه من بعد أن استرده للعيش في كنفه‏,‏ إذ كان أليوشا
يشير إلي كونتيسة غازلها هو وأبوه في آن‏,‏ وأنه غلب أباه‏,‏ فغضب أبوه
غضبا شديدا‏.‏ وتري هل يعني ذلك تجسيدا لنوع من تمرد الابن علي أبيه
وممارسة إذلاله وإهانته انتقاما‏,‏ بانتهاك الحدود كافة‏,‏ خرقا لأية
محرمات‏,‏ وتعاليا علي المحظورات‏,‏ انفلاتا مما هو مرصود من عقوبات في
سياق أن كل شيء مباح؟

تعززت الصلة العاطفية بين أليوشا وناتاشا‏,‏
فطلب إلي أبيه ـ تحت ادعاء أن الريف يناسبه نفسيا ـ السماح له بالمكوث
فترة أخري‏.‏ ارتاب الأب في طلبه‏,‏ حيث انتشرت شائعات ووشايات شنيعة‏,‏
أدت بالأمير إلي اتهام أخمنيف بأن ابنته ناتاشا‏,‏ أوقعت ابنه في حبائلها
طمعا في الزواج به‏.‏ ولأن الأمير كان يحتال لإتمام زواج مدبر بالأميرة
كاترينا‏,‏ ابنة الزوج الراحل للكونتيسة السيئة السمعة التي تربطه بها
علاقة آثمة‏,‏ استهدافا إلي الحصول علي الأموال التي تملكها العروس‏,‏ لذا
فقد أعلن الأمير اتهامه أخمنيف بأنه كان يسرق أمواله خلال إداراته
لأملاكه‏,‏ وأقام دعوة اتهام أمام القضاء‏.‏ سرعان ما خسر أخمنيف موقفه‏,‏
فقد أعوزته بعض الوثائق‏,‏ كما أنه ما من أحد كان يحميه‏,‏ والأمير يضغط
بلا رحمة ليحول الأمر لصالحه‏,‏ وليستل من الرجل الرمق الأخير‏,‏ فحجزت
أموال أخمنيف‏,‏ وجن جنونه بفعل الإذلال والمهانة‏,‏ وانتقل هو وأسرته إلي
بطرسبرج ليلاحق قضيته‏,‏ لكن ثمة متغيرا جديدا راح يعمق إحساسه بمهانته
وإذلاله‏,‏

ذلك أن ابنته ناتاشا هربت مع أليوشا للعيش معه في ضواحي
المدينة‏.‏ لا شك أن مبادرة إعلانه التبرؤ من ابنته قد منحته أمام نفسه
قيمة التمسك بكبريائه‏,‏ واستقلاله في صراعه‏,‏ لكن بلا سلطان اجتماعي‏,‏
إذ هروبها وضعه تحت مظلة التواطؤ‏,‏ وأحدث شرخا يجهض براءته‏,‏ لذا راح
يلعنها ـ رغم كل ما كانت تعنيه لحياته ـ رافضا كل محاولات ضغوط قبول فكرة
الغفران لها والتسامح عما فعلته‏,‏ لكن عندما حدث الإنقلاب الأخطر
الثاني‏,‏ حين قطع أليوشا علاقته مع ناتاشا وهجرها من أجل حبه كاترينا‏,‏
سامح الأب ابنته‏,‏ حيث أدرك أنها مثله مغدورة‏,‏ تعاني المذلة والمهانة
في محنة لعبة العلاقات الانقلابية‏,‏ لم يتخل عن مسئولياته في أن يحررها
من وحدتها‏,‏ لتعود إلي دفء علاقتها الركنية غير القابلة للاستبدال لتصل
ما انفصل‏,‏ بدلا من العيش التعس مع الأفكار المغلوطة‏.‏

رواية
مذلون مهانون‏,‏ للكاتب الروسي الفذ دويستيوفسكي‏,‏ تطرح ـ من خلال شبكة
علاقات شخصياتها ـ تحديا يتجلي في الكشف عن أسباب القطيعة مع ما هو
متصل‏,‏ والشروع في الاتصال بما هو منفصل‏.‏ ولا شك أن فكرة التقاط المرء
لرغبة مجاورة تخص غيره‏,‏ فيصاب بها تماما كما يصاب بعدوي المرض‏,‏ يمكن
أن تفسر أسباب موقف ناتاشا‏,‏ لا أن تبرره‏.‏ إن ناتاشا واجهت ايفان
بإعلانها عن حبها له‏,‏ ثم أيضا واجهته بإعلانها عن حبها لأليوشا‏,‏ بل
اعترفت أنها تحبهما معا‏,‏ لكنها اختارت أليوشا‏,‏ ليشغل موقع مشروع
حياتها‏,‏ الذي علي الحقيقة لم يكن موقعا شاغرا‏,‏ إذ كان يشغله إيفان‏,‏
مع أنها تعلم كل مثالب شخصية أليوشا‏,‏ وأهمها وهن إرادته‏,‏ وافتقاده
لاقتدار المواجهة والاختيار‏,‏ لكن الصحيح أن ذلك قد شكل حافزا بالنسبة
إلي ناتاشا كي تحرر أليوشا من عطالته‏,‏ إذ كانت قد التقطت من أليوشا
المجاور لها سياقا وزمانا‏,‏ عدوي رغبته في التمرد علي أبيه الأمير
المحتال الغشاش المضلل‏,‏ وذلك بأن يرفض أليوشا الزواج بالأميرة
كاترينا‏,‏ بوصفها بوابة جديدة للحصول علي الأموال لأبيه‏,‏ استمرارا في
ممارسته لشعار كل شيء مباح‏,‏ متصدرا واجهة الحياة بأنانيته المفرطة‏,‏

حيث
كانت قد خبرت فجوره في تجربته الفاشلة معها‏,‏ عندما حاول إغراءها لتكون
محظية الكونت‏.‏ لقد حجبت عدوي تلك الرغبة عن ناتاشا إمكانية أن تدرك إلي
أين ستقودها‏,‏ ولأنها قد أزاحت مشروعها الحقيقي لحياتها‏,‏ فقد ابتلعها
مشروع أليوشا الوهمي‏,‏ وظلت ممسوسة بتلك العدوي حتي هزمها أليوشا‏,‏
وانهزم هو نفسه‏,‏ في حين ظل إيفان محافظا علي مشروعه الذي كان أكبر من
حياته أو حياة غيره‏,‏ بوصفه كاتبا يتحمل مسئولية تنوير مواطنيه‏,‏ ليصون
صلتهم بذاتهم الحقيقية‏,‏ ويحررهم من أي تواطؤ ذاتي‏,‏ بالكشف عن الزائف
والمضلل‏,‏ ذلك ما مارسه علي مستوي حياته الخاصة‏,‏ إذ ظل إلي جانب ناتاشا
في محنتها داعما لها‏,‏ مع أنها أزاحته عن حياتها‏,‏ لكن لم يتخل عن
مسئوليته تجاه تنويرها‏,‏ وأيضا لم يسمح لأي مشروع آخر‏,‏ أو أية متلهيات
أن تبتلع مشروعه‏,‏ ولم يلتقط عدوي رغبات الآخرين‏.‏ ولأن الكاتب هو شعور
بال نحن في حالة الوعي بالوجود‏,‏ وليس شعورا بال أنا‏,‏ لذا ظل إيفان
واعيا بمعني دوره في الشأن العام‏,‏ وخطوط الفصل بينه والخاص من حياته‏.‏
تري ألا يصب ذلك في معني إدراك مسئولية أن تكون مصر مشروع كل المصريين‏,‏

حماية من أن تبتلع مصالحها مشروعات الآخرين‏,‏ وأن شعار كل شيء مباح شعار مغلوط‏,‏ لأنه لا يحمي الحقوق‏,‏ ويناقض عدالة الاستحاق؟