من يضـع السـموم في كعكـة الإتقـان؟ بقلم : منير عامر

من طرف سمير الإثنين أبريل 06, 2009 3:49 pm

من يضـع السـموم في كعكـة الإتقـان؟
بقلم : منير عامر

لم
أستطع منذ وقت ليس قصير‏,‏ مقاومة هذا الحلم الغريب الذي يهاجم خيالي‏,‏
حيث أري في حلم اليقظة من يحاول الإمساك بكوكب الأرض ويقوم بكرمشته بين
يديه وكأنه كرة بنج بونج بسيطة‏.‏ ومع عملية الكرمشة تموت قصص حب ويضيع
مستقبل أجيال وتسود مجاعات وتنهار دول‏,‏ ثم يخرج من قام بتلك العملية علي
شاشات التليفزيون ليعلن أنه المنتصر‏,‏ مثلما فعل جورج بوش الابن الذي
أمطر سماء أفغانستان ذات يوم بصواريخ يتكلف الواحد منها مليون دولار‏,‏ ثم
أمطرها بعد ذلك بعلب أطعمة محفوظة‏,‏ إلي أن جاء الوقت الذي أعلنت فيه
بورصة المال في نيويورك وول استريت أن الجشع السياسي للسيطرة علي الكون‏,‏
صاحبه جشع آخر لسلب الثروات الهائلة من المنتجين‏,‏ وتحويلها إلي سندات
تأمين بنكية مزورة‏,‏ تجري عليها مضاربات علي أسس من أفكار لم يملكها أي
شيطان منذ ميلاد فكرة الشيطان في الكون‏,‏ وراح كل من الجشع السياسي
يتسابق مع الجشع النقدي‏,‏ لتلحق بكل من الجشعين هزيمة صارخة يئن منها
سكان هذا الكون‏,‏ من فرط نوبات المغص التي هجمت علي الاقتصاد العالمي‏,‏
هذا الاقتصاد الباحث حاليا عن معجزة كي يخرج مما سببه للبشر من مآسي بعضها
ظاهر وبعضها مازال مكتوما‏.‏

ولكي أتخلص من ذلك الحلم المؤلم‏,‏
كان لابد لي من استعراض سريع للتفاصيل الدقيقة والمخفية التي تدور خلف أي
من الجشعين‏,‏ السياسي والاقتصادي‏.‏

وأعترف اني لا أقترب كثيرا من
محاولة فهم أي من السياسة أو الإقتصاد إلا بما يمكن أن يؤثر علي أي قصة حب
أراها بين أي اثنين من الجيل الشاب الذي يلهث من أجل بناء بيت صغير يسع
الحلم في بناء أسرة‏.‏ وأتابع قدر الطاقة محاولة البشر من الدراسات
النفسية للوصول إلي انسجام مع الظروف بما يحقق التقليل من الكروب‏.‏ ولا
أسمح لنفسي بسذاجة توهم أن المجتمع الإنساني سينتصر علي العواصف السياسية
والاقتصادية التي تنتج الكروب‏,‏ فمن هو ذا الذي يستطيع أن يهب نفسه مثل
هذا الوهم وهو يري بلادا تتفكك مثل الصومال ومن بعده العراق‏,‏ وتجري
محاولة تفكيك السودان علي قدم وساق‏.‏ ومن ذا الذي يمكن أن يصدق هذا
التسابق الأهوج لإنتاج السلاح العابر للقارات في بلاد تعاني من مجاعات
صامتة مثل كوريا الشمالية‏,‏ أو مجاعات للتوافق الذي يحقق الانسجام
الاجتماعي مثلما يحدث في باكستان‏,‏ أو التنافر المصحوب بعدم التماسك
المجتمعي إلا في ظل التجارة بالخوف مع العجز عن الإيمان بإمكانية السلام
كما في إسرائيل‏.‏

وأعود هامسا لنفسي‏:‏ أي إنسان لا يملك تغيير
الكون ـ مثلي ومثل أي قارئ ـ وعليه أن يري بعيون مفتوحة مسلسل الكروب وهو
يعبر كسحابات حزن من بلد إلي آخر‏.‏

أتأمل كيف اخترت لنفسي رصد
معظم أوقاتي كي أتعرف علي عملية تصنيف الأحزان والكروب بعقد الصداقة وعشق
التواصل مع من يهبون حياتهم للتقدم في فهم أساليب التعامل العلمي مع
الأحزان والأحلام المكسورة ومشاعر الاغتراب العميق والعجز عن التوافق مع
النفس أو الغير‏.‏ وبطبيعة الحال تعرفت علي من أتقنوا حرفة الرحيل داخل
تلافيف ذكريات الفرد سواء تلك التذكارات التي يعيها أو التذكارات التي
لايعيها من أجل تخفيف الكروب عن طريق التحليل النفسي‏,‏ وأضفت إلي تجربتي
معرفة بمن أتقنوا التوغل عبر دراسة الجسد البشري بكل تفاصيله الكيميائية
والحيوية ليعرفوا ما يدور داخل المخ من تفاعلات بين المواد المختلفة التي
تؤثر في سلوك الإنسان عند مواجهة الظروف الصعبة‏,‏ أو عندما يسبح في لحظات
من السعادة الطارئة‏.‏

ومن الغريب أن كل محاولة للابتعاد عن
السياسة والاقتصاد كانت تعود بي إلي المواجهة معهما بدهشة الاستغراب‏,‏
فعلم الاقتصاد ـ علي سبيل المثال ـ أخذ يقنن لأهل سياسة قهر المجتمعات
باسم الماركسية‏,‏ وصار أعضاء الحزب في المعسكر الإشتراكي هم من يواصلون
استغلال غيرهم حتي وقع المعبد الشيوعي علي الكهنة والأتباع معا‏,‏ وبالطبع
عاني من لم يكن لهم ناقة ولا جمل في تلك اللعبة‏.‏ ولن أنسي أبدا إجابة
المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودنسون في عام‏1964‏ علي سؤال لي لماذا استقلت من
الحزب الشيوعي؟ أجابني لأنه يبرر كل ما يحدث في موسكو التي فقدت القدرة
علي رؤية انفصال الحزب عن الناس‏,‏ وتحوله إلي إقطاع سياسي يتمتع أفراده
بالمزايا‏,‏ بينما يرسف الآخرون في الأغلال‏,‏ إنه أمبراطورية رومانية
جديدة‏,‏ الحياة للرومان والقهر للباقين‏,‏ ولذلك استقلت من حزب يبرر
ذلك‏.‏

ولن أنسي أبدا ملامح جان بول سارتر وهو يصف الولايات
المتحدة بأنها لم تعد اسما لبلد‏,‏ بل هي اسم لمرض نفسي يعاني من ضراوة
الانتقال من البدائية إلي الهمجية دون أن يتوقف عند أهمية التحضر‏,‏
وتمادي سارتر في تضخيم بشاعة الأسلوب الأمريكي في النظر إلي البشر كأنهم
مجرد نسخ متشابهة يتم العبث بخيالهم عن طريق علم التسويق والتوزيع‏,‏ مع
التغني طوال الوقت بفكرة الحرية‏.‏

وكان من السهل أيضا تصديق هذا
الفيلسوف الوجودي الذي تساءل ومعه عالم الرياضيات الفيلسوف برتراند راسل
عن جدوي حرب فيتنام فلم يجدوا لها سببا واضحا‏.‏ ومن العجيب أن المؤرخين
الأمريكيين المعاصرين الذين جاءوا من بعد رحيل كل من سارتر وبرتراند راسل
إلي العالم الآخر لم يجدوا حتي كتابة هذه السطور أسبابا مقنعة للأمريكيين
العاديين بجدوي تلك الحرب التي فرح العالم بنهايتها وإن لاحقه الحزن من
بعد ذلك بتواصل الحروب‏,‏ وآخرها الحربان الجاثمتان علي صدر كل من أهل
العراق وأفغانستان وكل من يسكن الولايات المتحدة وله قريب أو صديق يعيش
أهوال الوجود في أتون واحدة من الحربين‏.‏

وأسمع صديقي الطبيب
المصري الأصل الأمريكي الإقامة د‏.‏فؤاد بشاي وهو يؤكد بالتحليل العلمي أن
هناك حربا صامتة لا ننتبه لها وهي حرب إنتاج الأغذية الضارة بالصحة بداية
من المياه الغازية ومرورا بأطعمة الطريق الدسمة التي تخصم من صحة الإنسان
العادي فوق ما يتخيل أي أحد‏,‏ وهي حرب تكسب منها المؤسسات العملاقة
المنتجة لها فوق خيال أي أحد‏.‏

ونتذكر معا حكمة الروائي الألماني
العبقري هيرمان هسة في رواياته التي يحكي فيها تجربة الإنسان حين يعيش
الحياة بإتقان كل ما يعمل‏,‏ فيستخدم اليدين لإنتاج ما يكفي الفم الواحد
ومعه عدة أفواه‏,‏ حين يتوفر لهذا الإنسان تعليم يعبر به عن طاقات الإتقان
داخله وهو يعمل‏.‏

ويحكي لي د‏.‏فؤاد كيف اكتشف هيرمان هسة حقيقة السموم التي يكره وضعها في كعكة يومه ألا وهي سموم الكسل أو خديعة الغير أو قهرهم‏.‏

ونتذكر
كيف صاغ هسة ملحمة رواياته كلها‏,‏ فشبه الحياة بمثل الساعة أو الكعكة‏.‏
والذكي حقا هو من يجعل عقارب الساعة تدور ليصنع من أي عمل كعكة إتقان‏.‏