بيـن الخيـال والذاكـرة بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف سامح المسامح الثلاثاء أبريل 07, 2009 4:47 pm

بيـن الخيـال والذاكـرة
بقلم : إبراهيم أصلان

كان
السيد كارلوس بيكر صاحب الكتاب الذي اشرنا اليه في مرة سابقة‏‏
هيمنجواي‏/‏ دراسة في أدبه القصصي‏)‏ يري ان هذا الأخير قد اعتقد بقوة في
اهمية ان يستخرج الصدق‏.‏ من وقائع المشهد أي القصة‏.‏ التي يقصها علينا‏.‏

ولكننا
نعرف ان استخراج الصدق من أي شيء امر عسير‏,‏ لأنه سعي بين مجموعة من
المبالغات او الاغاليط العاطفية‏,‏ ويحدثنا بيكر هذا عن ثلاثة منها‏:‏
المبالغة العاطفية واللاعاطفية‏,‏ والمبالغة المصورة للحركة‏.‏

وعن
المبالغة العاطفية يورد مثالا من الشاعر تشارلز كنجزلي الذي كتب في احدي
قصائده يقول ان بنتا ماتت علي الشاطئ الصخري وجاءت البحارة بجثتها‏:‏

فجدفوا بها عبر الزبد المتدافع‏.‏
الزبد القاسي الزاحف‏.‏

وهنا
تصدي له المفكر والفنان الانجليزي‏(‏ جون رسكن‏1819‏ ـ‏1900)‏ وانتقده
بشدة‏,‏ لأن الزبد لا يوصف بالقسوة ولا بالزحف‏,‏ وان من يسبغ هذين
الوصفين اللذين لا يوصف بهما الا الحي‏,‏ لابد من أنه وقع في قبضة المشاعر
العنيفة التي من شأنها ان تحدث فينا احاسيس مزورة عن الاشياء الخارجية‏,‏
وذلك لأنها نتجت عن فيض زائد من الشعور المبالغ فيه ولأننا عندما تسيطر
علينا العاطفة‏,‏ يصعب علينا ان نري الشئ في حقيقته‏,‏ وبهذا المعني فإن
المبالغة العاطفية في اساسها خطأ في ادراكنا للاشياء‏,‏ يؤدي بالتداعي
المنطقي‏,‏ الي الخطأ في التعبير‏.‏ هذا عن المبالغة العاطفية‏.‏

أما
عن المبالغة اللاعاطفية فهي الوقوف في الجانب الآخر من المبالغة
العاطفية‏,‏ حيث يكون الفكر هنا في أشد حالات البرودة والجفاف‏.‏ يقول
بيكر ان ما فعله هيمنجواي حلا لهذه المشكلة هو الوقوف في المرحلة الوسطي
التي يسميها نظرية الوسط الشعوري‏.‏

لقد آخذ نفسه طوال عمله
الإبداعي بميزان ينفي هاتين المبالغتين تماما‏.‏ فالعاطفة المنضبطة ضرورة
لأنها تتيح لنا اولا ان نري ما رأيناه حقا‏,‏ لا ما ظننا اننا رأيناه وان
نعرف‏,‏ ثانيا‏,‏ ما نحسه‏,‏ لا ما كان متوقعا لنا ان نحسه وان نتحدث بصدق
وصراحة عما رأيناه بدلا من ان نسجل صورة زائفة منه‏.‏

لا يبقي
أمامنا الآن إلا أن نتحدث عن المبالغة الثالثة المصورة للحركة والتي
يعتبرها الرجل اهم هذه المبالغات واكثرها خطرا‏.‏ وما ذلك الخطر إلا لأننا
نظن بأننا نستطيع ان نحصل علي خير فن او خير قصة‏,‏ بأن نقل ما نراه نقلا
دقيقا‏,‏ اي نسجل ما يفعله الناس وما يقولونه حسبما نراهم‏,‏ نحن إذ نفعل
ذلك وقعنا في الخطأ‏,‏ ونكون في مثل هذه الحالة أشبه بمن امسك في يده
مرآة‏,‏ ومكبرا للصوت‏,‏ اي سنقوم بتصوير الاشياء من الخارج وكما تبدو
لنا‏,‏ وهكذا تتشوه الحقائق بينما نسعي لكي نجنبها التشوه‏.‏ وينبهنا ان
هيمنجواي عندما كتب‏(‏ الشمس تشرق ايضا‏).‏ كانت كتابته في نطاق ما يمكن
وقوعه وما يحتمله الواقع‏,‏ لا ما وقع فقط‏,‏ وانه لم يعط لنفسه هذا الحق
إلا بعد ما تدرب طويلا علي نقل الواقعي كما هو في حدود ما تؤكده المشاهدة
الدقيقة وهو بهذا لم يتجنب المبالغة المصورة للحركة بل تخطاها‏.‏

لقد
ظل هذا الموقف الوسط يؤكد لدي هيمنجواي اهمية ذلك السعي لنقل الحقيقة‏,‏
وهو قال ان مقياسه في مدي امانته يجب ان يكون مقياسا عاليا حتي يظل
اختراعه‏,‏ الذي يصدر دائما عن تجربته مصدرا يتمخض عما هو اصدق من كل صدق
واقعي‏,‏ ثم انه يذكرنا بكلام قاله‏(‏ كولردج‏1772‏ ـ‏1834)‏ ليس للشاعر
أن يخطف من جيب الطبيعة‏.‏ انه يستطيع ان يقترض وفي نيته أن يسدد ما
اقترضه‏.‏ تفحص أيها الشاعر‏,‏ بدقة‏,‏ ولكن اكتب ما تذكره‏,‏ ثم ثق في
خيالك أكثر مما تثق في ذاكرتك‏.‏