اللغة الصائتة‏..‏ واللغة الساكتة‏!‏ بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف **nona** الأربعاء أبريل 08, 2009 4:32 pm

اللغة الصائتة‏..‏ واللغة الساكتة‏!‏
بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

اذا
كنا نريد أن نعرف مكاننا من الشعر‏,‏ هل نحن قادرون علي أن نكتبه‏,‏ وهل
نحن قادرون علي أن نقرأه ونتذوقه‏,‏ فعلينا أن نجيب علي الأسئلة الثلاثة
التي ختمت بها حديثي السابق‏,‏ وأولها سؤال اللغة‏:‏

هل توفر لنا
مؤسساتنا التعليمية ـ علي اختلاف مستوياتها وبرامجها ـ تربية لغوية تمكننا
من امتلاك لغتنا القومية والتصرف فيها علي النحو الذي نكشف فيه عن قدراتنا
ومواهبنا‏,‏ وعن قدرات اللغة وعن عبقريتها الخاصة وعن طاقاتها التي لا
تنفد‏,‏ ولاتزال تنتظر في كل عصر من يلتمس الطريق إليها ويستخرجها
ويستنطقها كما فعلت الأجيال التي سبقتنا؟

لقد حول الأمويون والعباسيون لغة الجاهلية العربية وكانت شعرا فحسب الي لغة شعر ونثر وعلم وفلسفة‏.‏

وكذلك
فعلت الأجيال التي سبقتنا في هذا العصر الحديث‏,‏ إذ ورثت من عصور
الانحطاط لغة أحيتها بعد موتها‏,‏ وردتها إلي الإفصاح والإيضاح‏,‏
والتعبير والتصوير‏,‏ والتفكير والإقناع‏,‏ بعد أن كانت عبارات ركيكة‏,‏
وزخارف مصطنعة مبتذلة‏.‏ ويكفي أن نقارن بين شعر شوقي وشعر الساعاتي‏,‏ أو
بين نثر طه حسين ونثر الشيخ عبدالله الشرقاوي لنتصور القفزة العبقرية التي
قفزتها لغتنا علي أيدي هذه الأجيال‏.‏
‏
ونحن المصريين نعتمد في اكتساب اللغة التي نكتب بها ونمارس نشاطنا الثقافي علي التعليم‏.‏

الشعوب
الأخري تكتب باللغة التي تتكلمها‏,‏ فباستطاعة الشاعر الفرنسي أو
الانجليزي أو الألماني أن يكتب قصائده باللغة التي تعلمها من أمه قبل أن
يتعلمها في المدرسة‏,‏ أما نحن فلنا لغتان‏:‏ لغة صائتة‏,‏ ولغة ساكتة‏,‏
الأولي للكلام وهي الدارجة التي نتواصل بها في حياتنا اليومية‏,‏ والأخري
وهي الفصحي التي يجب أن نتعلمها في المدارس لكي نقرأ بها ونكتب‏.‏

ونحن
لا نستطيع أن نكتب بالفصحي أو نقرأها إلا اذا تمكنا من معجمها وقواعدها
النحوية والصرفية وفنونها البلاغية‏,‏ وتراثها الأدبي والفكري بالقدر الذي
يساعدنا علي أن نفكر بها ونعبر بيسر وبتلقائية‏.‏

والشعر هو فن
اللغة الأول‏,‏ ولكي يمتلك الشاعر فنه عليه أن يمتلك اللغة الفصحي
ويعايشها ويعاشرها ويقرأ منها ويحفظ من آثارها حتي تنطق وتتحول عنده الي
سليقة‏,‏ وتحل في نشاطه العقلي محل اللغة التي تلقاها عن أمه وأبيه‏,‏
وهذا ما تحقق للأجيال المصرية التي صنعت نهضتنا الحديثة‏,‏ فهل حافظنا علي
هذه الخبرة؟ وهل نتلقي الآن تربية لغوية مماثلة؟

ليس أمامنا إلا أن
نقارن بين اللغة التي ورثناها عن طه حسين‏,‏ والعقاد‏,‏ وشوقي‏,‏ وعلي
محمود طه‏,‏ وتوفيق الحكيم‏,‏ ونجيب محفوظ‏,‏ واللغة التي نكتبها ونقرأها
الآن‏.‏
‏
لنقارن بين اللغة التي تستخدم في المدارس اليوم والتي
كانت تستخدم من قبل‏,‏ واللغة التي نستخدمها في صحف اليوم واللغة التي
كانت تستخدم في صحف الأمس‏,‏ بين لغة الاذاعة الآن ولغة الاذاعة في أيام
محمد فتحي ـ كروان الاذاعة ـ وجلال معوض ـ وسعد لبيب‏,‏ بين اللغة التي
تدور بها المناقشات في مجلسي الشعب والشوري واللغة التي كانت تستخدم في
مجلسي النواب والشيوخ‏,‏ بين الكلمات التي كان يغنيها عبدالوهاب وأم كلثوم
والكلمات التي يغنيها مطربو هذا الزمان ـ باحبك ياحمار‏!‏ ـ بين اللغة
التي كان يخاطبنا بها الشيخ أحمد حسن الباقوري فيمتعنا ويقنعنا واللغة
التي يستخدمها أئمة هذا الزمان في فتاواهم التي حلوا بها مشكلات العصر مثل
زواج الانس والجن‏,‏ وإرضاع الكبير‏,‏ والتداوي بالبول‏!‏

والأمر
لايقف عند هذا الحد‏.‏ قارنوا بين اللغة المستعملة في كليات الآداب في
الجامعات المصرية اليوم واللغة التي كان يحاضر بها طه حسين‏,‏ وأحمد
أمين‏,‏ وأمين الخولي‏,‏ وزكي نجيب محمود‏,‏ وشكري عياد‏,‏ ومصطفي ناصف‏,‏
ولطفي عبدالبديع‏.‏

هل ينتظر من هذه اللغة التي تتعلمها الأجيال
الجديدة وتقرأها وتسمعها في هذه الأيام أن تمنحها القدرة علي أن تكتب
الشعر وتقرأه وتتذوقه؟

لا أظن‏,‏ ولقد جلست مرات أستمع لبعض الذين
يعدون أنفسهم شعراء ويجدون من يعدهم كذلك‏,‏ ويقدمهم للناس ويكتب عنهم
ويدعوهم لحضور المؤتمرات والمهرجانات فوجدتهم يقعون في أخطاء لا يجوز أن
يقع فيها تلميذ في السنة الرابعة الابتدائية‏.‏

والكتاب ليسوا أفضل
من الشعراء‏,‏ وإن كان باستطاعة الكاتب أن يداري عورته ويواري سوأته‏,‏
لأنه يكتفي بنشر ما يكتب ولا يجد نفسه مضطرا لقراءته بصوت كما يضطر الشاعر
للقراءة في بعض الأحيان‏.‏

الكاتب يستخدم الفصحي في هذه الأيام
باعتبارها لغة ساكتة غير منطوقة‏,‏ لا يجد نفسه مطالبا فيها برفع أو نصب
أو جر‏,‏ فحسبه أن يضع الفعل قبل الفاعل والخبر بعد المبتدأ ليعد نفسه
ويعده الناس كاتبا‏,‏ فإذا وقع في خطأ‏,‏ وهو ما يحدث لا محالة‏,‏
فالمصححون يقومون بالواجب‏,‏ ولهذا يستطيع المصححون أن يبتزوا الكتاب
ويهددوهم بالتوقف عن العمل ليظهروهم علي حقيقتهم أمام القراء‏!‏

فإذا
كان بوسع الكاتب أن يستر أخطاءه فالشاعر لا يستطيع‏,‏ لأن الشاعر يضطر في
كثير من الأحيان لقراءة قصائده علي الملأ‏,‏ فإذا أخطأ فضح نفسه‏,‏ ولغة
الشعر بطبيعتها لغة صائتة‏,‏ لأن الإيقاع ركن أساسي فيها‏,‏ والايقاع
مرتبط بالمعني‏,‏ وإذن فهو مرتبط بالنحو‏,‏ اذا كانت القافية مرفوعة مثلا
فمن الواجب ألا تستخدم فيها كلمة حقها النصب أو الجر‏.‏

والكاتب لا
يراعي فيما يكتب إلا توضيح المعني وتوصيله للقارئ‏,‏ فبوسعه أن يضع كلمة
محل كلمة يوضح بها المعني أو يصحح خطأ وقع فيه دون أن يؤدي ذلك الي الوقوع
في خطأ آخر‏,‏ أما الشاعر فيراعي جملة أشياء في وقت واحد تصح معا وتفسد
معا‏,‏ الصورة التي يرسمها‏,‏ والمعني الذي يعبر عنه‏,‏ والايقاع الذي يجب
أن يحافظ عليه‏,‏ وهو قد يوضح المعني فيختل الوزن‏,‏ وقد يقيم الوزن فيهرب
المعني‏,‏ ولهذا ينظم الشاعر قصيدته وقد استنفر كل حواسه‏,‏ وكل ملكاته‏,‏
وكل قواه‏,‏ وكل أدواته وفي مقدمتها اللغة التي يستطيع أن يلعب بها كما
يريد‏,‏ وأن يأسر بها العالم كله‏.‏

ما الذي يحدث حين لا تتاح للشاعر هذه اللغة القادرة علي اصطياد كل شئ مرة واحدة؟

انه
يضحي بعصفور ليمسك بالعصفور الآخر‏,‏ يضحي بالمعني ليمسك بالصوت‏,‏ أو
يضحي بالصوت ليمسك بالمعني‏,‏ وأحيانا يضحي بالمعني والصوت‏,‏ ولا يمسك
إلا الصمت‏!‏