المصريون وحكاية الإيطالي القعيد‏!‏ بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر

من طرف **nona** الأربعاء أبريل 08, 2009 4:39 pm

المصريون وحكاية الإيطالي القعيد‏!‏
بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر

كنا
مجموعة من الأصدقاء المهمومين بأحوالنا ومشغولين دوما بسؤال مدبب يخترق
عقولنا مثل وساوس الشيطان وينخر فيها دون توقف‏:‏ ما الذي ينقصنا لكي ننفض
عن أنفسنا صدأ السنين الكبيسة؟‏!,‏ ما الذي يعوقنا عن الحركة والانطلاق
الي الأمام لنصنع مصر جديدة عصرية متقدمة تناطح السحاب مثل كل دول العالم
الأول‏:‏ ديمقراطية وحرية وحقوق إنسان وصناعة وتنمية مستدامة وحضارة؟‏!,‏
ما الذي يمسك بتلابيبنا ويشد فينا ويجعلنا قانعين راضخين مستسلمين لواقعنا
كما لو أننا أشباح غائمة معلقة بين السماء والأرض؟‏!‏

طرحنا هذه الأسئلة علي أنفسنا عشرات المرات‏,‏ وسألناها في جلسات خاصة أو منتديات عامة مئات المرات‏.‏

وكثيرا ما كنا نعثر علي إجابات نختلف حولها أو نصدق بعضها أو لانثق في بعضها‏..‏ ومازلنا نسأل‏..‏

وقبل
أيام قادتنا المصادفة الي قرية سياحية في الغردقة لايرتادها سوي
الأجانب‏,‏ أغلبهم من الطليان بخفة دمهم وروحهم التي تقترب من روح
المصريين الي حد ما‏,‏ ولفت نظرنا الرجل‏..‏ في الأربعين وربما أكثر‏,‏
قعيد علي كرسي متحرك لايغادره أبدا‏,‏ تدفع به امرأته أو أخته أو ممرضته ـ
لانعرف ـ الي الشاطئ والمطعم والملهي‏,‏ وكان وجهه دائم البشر والبشاشة
ولم نضبطه مرة واحدة عابسا أو متجهما‏.‏

كان الجميع يلعبون‏,‏
يسبحون‏,‏ يجرون‏,‏ يقفزون‏,‏ يتنططون وهو جالس علي كرسيه لايكتفي بالتأمل
والتحسر علي نصيبه الضئيل‏,‏ ولا يغوص في أعماق ذاته يجتر منها مايحرضه
علي الاكتئاب والانزواء ويظل يسأل السماء‏:‏ لماذا أنا بالذات محروم من
النعم التي يتمتع بها كل من حولي؟‏!‏

لم يسكن كهوف الكآبة والخرس‏,‏ وراح يحرك جسده بل ويجبره جبرا علي الاهتزاز كما لو أنه يسبح أو يلعب الكرة أو يجري علي الشط‏.‏

تابعنا
الرجل القعيد معجبين بروحه وقدرته علي جر نفسه للخروج من عزلة اليأس الي
ساحة المرح‏,‏ حتي صعقتنا المفاجأة المذهلة‏,‏ اذ وجدناه علي كرسيه عاريا
إلا من المايوه وأطرافه ضامرة ويطلب من صاحبته ان تدفع به الي الماء
بالعجلة‏,‏ لم تناقشه واستجابت له علي الفور ونزل الي البحر وهو يعبث
بالماء بيديه‏,‏ ويطرطش ويضحك ملء شدقيه كطفل حبور‏,‏ ثم راح يسبح بيديه
في مكانه‏,‏ كما لو أنه يتجاوز عجزه ويصرخ في الدنيا‏:‏ أنا أتحدي إذن أنا
موجود‏!‏

ساعة وربما ساعتين ونحن نراقبه ونهمس لبعضنا البعض بأسئلة
غبية‏:‏ هل يمكن ان يزهق ويصيبه الملل؟‏!‏ هل سيعود الي سجن واقعه المؤلم
ويتوقف ويشخط في صاحبته ان تخرجه فورا قبل ان يلفت انظار من حوله فتنهمر
عليه نطرات الشفقة؟‏!‏

لم يحدث ما سألنا عليه‏,‏ بل ساد الرجل
القعيد في لعبه وترويحه عن نفسه‏,‏ لم يعبأ ببعض العيون التي تسمرت عليه
للحظة ثم عادت الي لهوها البريء‏,‏ بل إن البعض جاء بكرة الماء ولعب معه
لعب الأنداد حتي حان موعد الغداء‏.‏

خرج الرجل الإيطالي القعيد من
الماء وتركنا علي حالة من الدهشة‏,‏ مثل دهشة القروي الساذج القادم من
قرية مصرية نائية الي محطة ناسا الفضائية في ولاية فلوريدا الأمريكية‏!‏

صمتنا
ثم اندفعنا في المقارنة بين مانراه ونلمسه ونصطدم به في حياتنا‏,‏
واسترجعنا عشرات المشاهد لنا أو لغيرنا من المصريين تشي بأننا كثيرا ما
نتلكك متذرعين بصعوبات أو عقبات حتي لانحاول أن نعمل شيئا مختلفا‏.‏

وقال
أحدنا‏:‏ هذه لحظة فريدة في حياة انسان‏,‏ لحظة لاتتكرر تسطع فيه قدرات
كامنة ثم تخبو‏,‏ فيعود هذا الانسان الي سيرته الأولي ويتصرف حسب القوانين
العادية‏.‏

وخاب أمل من قال هذا‏.‏

في المساء رأينا
الإيطالي القعيد في الكافتيريا لوحده دون مرافقته‏,‏ روحه عالية متوثبة
ولاشاب رياضي في العشرين من عمره‏,‏ الحياة تكاد تقفز من عينيه وملامحه‏,‏
دقائق وعزفت الموسيقي وتطايرت نغماتها في ارجاء المكان هادئة حالمة ثم
راقصة زاعقة‏,‏ وأخذ الحاضرون يرقصون في ايقاعات غربية مفعمة بالحيوية وهو
يصفق ويتمايل ويضحك‏..‏

وفجأة طلب من الجرسون أن يدفع العربة الي
وسط القاعة‏,‏ وراح يهتز ويمسك بعجلاتها يحركها شمالا ويمينا‏,‏ أماما
وخلفا‏..‏ ويرقص بها ومعها ورأسه يتحرك في كل اتجاه بإيقاع جميل‏,‏ لا
أبالغ اذا قلت لكم‏:‏ كانت أحلي رقصة رأيتها في حياتي‏!‏

رقصة في مواجهة العجز‏..‏
رقصة تسخر من العجز وقلة الحيلة‏..‏

والرقص
هو أقدم لغة عرفها الإنسان وتواصل بها مع الآخر‏..‏ والرقص هو أقدم أسلوب
عبادة لجأ اليه الانسان وتقرب به من خالقه‏.‏ سواء في الكهف قبل ان يتعلم
حرفة البناء أو في المعابد حين شيدها‏..‏

لكن هذه أول مرة أري فيها
الرقص دعوة للحياة‏..‏ والإمساك بها‏..‏ لم تهزم الأطراف الضامرة الرجل
القعيد‏,‏ لم يصده الكرسي الكريه الذي قد نعتبره تابوتا متحركا علي
عجلات‏,‏ فاستجاب جسده للموسيقي وراح يرقص ويرقص ويرقص في نشوة‏..‏ والناس
من حوله تصفق وتندمج معه‏..‏ فما أجمل ان نعشق الحياة ونقفز اليها دون ان
نخاف من الغرق في أمواجها العالية‏!‏

في تلك اللحظة أشرقت شمس الإجابات عن تساؤلاتنا أو هكذا تخيلنا وتصورنا‏.‏

نعم‏..‏ هذا ماينقصنا‏..‏ الإرادة‏.‏

الإرادة القوية التي تلوي عنق الواقع وتغيره كيفما نشاء‏..‏ الإرادة الإنسانية صانعة المستحيل‏,‏ والتي لايصدها مستحيل‏.‏

هل يمكن ان نتعلم من ذلك الإيطالي القعيد الذي رقص وهو ضامر الأطراف؟‏!‏

هل نفهم ماقام به وأصر عليه بالرغم من عجزه؟‏!‏

لاشيء يحبطنا ولاشيء يمنعنا من الحلم بالتغيير والقفز الي بحر الحياة بقوة اذا تسلحنا بالارادة القوية‏!‏

nomar@ahram.org.eg