التربية قبل التعليم‏(2)‏ بقلم‏:‏ شريف الشوباشي

من طرف **nona** الأربعاء أبريل 08, 2009 4:40 pm

التربية قبل التعليم‏(2)‏
بقلم‏:‏ شريف الشوباشي

للأسف
أننا لا نعي بالقدر الكافي الدور الأساسي الذي تلعبه التربية في تحديد
الفاصل بين الحضارة والتخلف‏.‏ والتربية في نظرنا تقتصر علي إلقاء النصائح
والتوجيهات وبعض الكلام المرسل عن المثل ومحاسن الأخلاق‏,‏ بالإضافة إلي
حكايات وقصص نموذجية ربما لا يصدقها الأطفال والشباب أنفسهم‏,‏ لأنها
تتناقض بوضوح مع الواقع الذي يعيشون فيه‏.‏ وما زال بعيدا عن ذهننا أن
التربية لا تكون إلا بالقدوة والمثال وأساليب واعية في معاملة الطفل
والتوجيه غير المباشر‏,‏ ولا تكون أبدا بالفرض والإرشادات الفوقية ومحاولة
غسل الأدمغة‏.‏

وقد تناولت في المقال السابق جانبا واحدا من
التربية وهو زرع وترسيخ حرية التفكير في اعماق نفس الإنسان‏.‏ واليوم سوف
أتناول جانبين آخرين أعتبر أن غيابهما عندنا من أبرز أسباب التراجع
الحضاري الذي نشهده في وطننا العربي‏..‏ وأولهما حب المعرفة والفضول
الإيجابي وهما من أبرز ما يميز شخصية الإنسان المتحضر‏.‏ ونحن نكتفي
بالقول بأن أول كلمة نزلت في القرآن هي‏'‏ إقرأ‏'‏ وكأنها تعويض عن عدم
اكتراثنا بتحصيل العلم ومتابعة ما يدور من حولنا والإلمام بالمعلومات
الأساسية من أجل فهم الحياة‏.‏ ولا أعتقد أن هناك مكانا بالعالم تكون فيه
كلمة‏'‏ مثقف‏'‏ مثار سخرية واستهزاء ويكون فيه الفكر والثقافة مجالات
للفكاهة والتندر كما هو الحال عندنا‏.‏ وقد صار الكتاب في نظر الكثيرين
كالثعبان الذي لا بد من الابتعاد عنه‏..‏ وصرنا مولعين بالبديهيات ونكره
بذل الجهد في سبيل الحصول علي أبجديات الثقافة العامة‏.‏

وعندما
يصير الاستهزاء بكل ما هو جاد ومفيد هو السمة المهيمنة علي المجتمع فإن
النتيجة الطبيعية لا بد أن تكون ظهور الفن الرخيص الذي نشكو منه جميعا‏,‏
لكننا لا ندرك أننا مسئولون عنه مسئولية جماعية بسبب الخلل في التربية
وأساليب تشكيل الشخصية المصرية‏.‏ وقد ثبت أن الاستغناء الإرادي عن
المعرفة من أبرز أسباب غيبوبة التخلف الجماعي التي تصيب شعوب العالم
الثالث‏.‏ أما الشعوب المتقدمة فقد توصلت إلي صيغة متوازنة‏,‏ وهي أخذ
الحياة مأخذ الجد في العمل وأداء الواجبات واللهو والمرح في الحياة
الخاصة‏.‏

وللأسف أن مساحة هذا المقال لا تحتمل إلا عرض بعض رؤوس
الموضوعات دون الخوض في التفصيلات‏.‏ لذلك انتقل إلي الخاصية الثانية
وهي‏'‏ المسئولية‏'‏ أو بمعني أدق غيابها التام في التربية المصرية
والعربية عامة‏.‏

فالطفل عندنا يشعر بأنه عالة علي الأسرة وليس
عضوا فاعلا بها‏.‏ ينشأ علي فرضية أن أبويه هما كفيلاه في الحياة حتي
يتخرج من الجامعة‏,‏ وبالتالي فليست عليه أيه واجبات أو التزامات داخل
الأسرة أو في الحياة‏.‏ ولا يتربي علي أن المذاكرة وأداء الواجبات
الدراسية والنجاح في الامتحان هي مسئوليات تقع علي عاتقه تماما كما يتحمل
أبوه مسئولية العمل من أجل كفالته هو وأخوته‏.‏ وهو ينشأ علي فكرة أن
الواجب هم ثقيل هو مكره علي القيام به إما غصبا أو لإرضاء والديه‏.‏

والشعور
بالمسئولية وضرورة الاعتماد علي النفس من أهم خواص الشخصية في الدول
المتقدمة‏.‏ ومع بدايات الوعي والإدراك يبدأ الأهل بالدول المتحضرة في غرس
وتثبيت مفهوم المسئولية في ضمير الطفل‏.‏ فالطفل يكلف منذ البداية بمهام
مثل ترتيب غرفته والاعتماد علي نفسه في الاستيقاظ والمذاكرة وإنجاز
الواجبات‏.‏ وهم لا يعاقبون الطفل إلا عندما يتقاعس عن أداء الواجبات
المتوافقة مع سنه مما يشكل تجهيزا عمليا لمواجهة أعباء الحياة
ومسئولياتها‏.‏

أما في ثقافتنا فهناك انفصام بين الفعل والنتيجة‏.‏
فالطفل عندما يخطيء فهو لا يعاقب العقاب الصحيح والمناسب لخطئه‏.‏ بل يحدث
أن يعاقب علي أشياء لا تستحق العقاب مما يجعله يشعر بالظلم‏,‏ فينشأ وهو
علي استعداد لظلم الآخرين خاصة الأضعف منه‏.‏

ونري الأجيال الجديدة
مستهترة وغير مبالية ولا تأخذ شيئا مأخذ الجد‏,‏ لأن المنزل والمدرسة
والإعلام ـ وهي كما قلت الأضلاع الثلاثة للتربية ـ لا تزرع في شخصيته
الجدية والشعور بضرورة تحمل المسئولية‏.‏ وأصبح من الصعب للغاية الاعتماد
علي الآخرين وغالبا ما نتوقع أن يخذلونا وألا يحترموا كلامهم ووعودهم‏.‏
ولا نستطيع أن نلوم الشباب وغير الشباب علي كل ذلك‏.‏ فالمناخ العام الذي
نتربي فيه هو مناخ من التراخي والاستهتار بالواجبات وعدم الاعتراف بحق
المجتمع علي الفرد والاستهزاء بكل ما هو جاد‏.‏

وقد أتيح لي أن
أعايش طريقة التربية الفرنسية عندما كنت مقيما بباريس لسنوات طويلة‏,‏
وأدركت لماذا يتميز الفرنسي والغربي عموما بالالتزام والجدية والدقة‏..‏
والسبب ببساطة أنه تربي وتدرب علي ذلك منذ البداية وأدرك أن حقوقه تقابلها
واجبات تصب في النهاية لمصلحته ومصلحة من يحب‏.‏

ولا يوجد في ثقافة
العالم المتقدم عمل مهم وآخر غير مهم‏.‏ فأصغر الأعمال تساهم في تسيير
حياة المجتمع‏,‏ ويتربي الناس علي احترام جامع القمامة والنجار بنفس القدر
الذي يحترمون به المهندس والطبيب طالما أنه يقوم بعمله علي خير وجه‏.‏
فتحمل المسئولية هو عندهم المعيار الأساسي لتقييم الإنسان‏.‏

وللحديث بقية حول نواقص أخري في التربية عندنا‏..‏

cherifchoubachy@yahoo.fr