شق النهار‏(16)‏ في الفيافـي بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف نورا نورا الخميس أبريل 09, 2009 3:41 pm

شق النهار‏(16)‏
في الفيافـي
بقلم : أسامة أنور عكاشة

قال
شوقي فيما بعد‏:‏ لا أعرف أولا أذكر من من رفاق المعتقل كان أول من همس لي
عن كنز الواحة المتنقلة لكنني أذكر جيدا تلك الليلة التي جاءني فيها عباس
وهمس في أذني ما رأيك لو قمنا برحلة؟‏...‏ عن أي رحلة تتكلم أيها الشاعر
الحزين؟

كانت أول مرة أسمع فيها عن الواحة المتنقلة حين سمعت من
عباس لم أصدق وظننته يردد بعضا من أحاديث الأساطير أو حواديت الجدات في
ليالي الشتاء وكيف يمكنني وأنا أستاذ جامعة وأعد نفسي مثقفا حقيقيا أن
أصدق خرافة تتحدث عن واحة لا تثبت في مكان وأنها قد تكون مرة في اتجاه
الشرق ومرة أخري تقع في أقصي الغرب‏.‏

ـ لعلك تمزح أو تريد تسلية أيامنا المتثائبة في هذا المكان‏!‏
ـ لو أن أحدا من الذين سافروا إلي الواحة قبل هذا لم يعد لكان رأيي مثل رأيك‏,‏ ولكن بعضهم كان يعود يا صاحبي‏.‏

عاجلته بلهفة ساخرة وأنا بعد لم أزل في منطقة الشك‏:‏ وماذا قالوا هؤلاء الذين عادوا من واحتك الخفية؟‏..‏

ـ
فلتسخر كما شئت‏,‏ الحقيقة أن منهم واحدا موجودا بيننا الان‏..‏ هل جلست
مع زايد وتحدثت معه‏..‏ زايد الأخرس؟‏!‏ حقا لقد أحسنت الاختيار يا شاعر
آخر زمن‏.‏

كان زايد أول من لقيته يوم دخولي المعسكر واكتشفت بعد
وهلة قصيرة أنه لا يتكلم ولكنه يسمع جيدا وقال لي الدكتور نجيب طبيب
المعسكر إنه نوع من الخرس الهستيري الذي يحدث عادة نتيجة لصدمة عنيفة لا
يريد صاحبها أن يبوح أو يتحدث عنها فيضرب عن الكلام بأسره‏.‏ إذن فقد
استشهد عباس علي روايته المزعومة بشاهد أخرس لا يتكلم‏.‏ أفقت من شرودي
علي صوته مرة أخري يهمس في أذني‏:‏ ما رأيك في أن نجرب؟ نظرت إليه مستنكرا
وتفحصت ملامحه جيدا إذ خطر لي أنه ربما كان واقعا تحت تأثير جرعة‏(‏ عرق
البلح‏)‏ الذي يعشقه ويعيش معه كل ليلة ولكنني وجدته جادا وملامحه توحي
بنوع من الاصرار الذي يبدو علي كل من يتخذ قرارا‏,‏ ومع ذلك قد رددت عليه
ساخرا‏:‏ ولماذا لا نجعلها رحلة جماعية تضم معنا باقي نزلاء المعتقل؟ دمدم
متذمرا وهو يبتعد عني‏:‏ الكلام مع أمثالك مضيعة للوقت‏!‏

ظننت أن
حديث الواحة المجهولة قد انتهي عند هذا الحد لولا أنني فوجئت بأن الموضوع
قد سيطر علي رأسي طوال الليل بسؤال ظل يتردد في أعماقي رغم كل محاولات
النوم‏...‏ وماذا يغري في هذه الواحة حتي يركب الإنسان مركب المخاطرة في
هذه الصحراء الشاسعة التي لا يمكن أن ينجو منها عابر لا يعرف شيئا عن
مسالكها أو مساراتها؟

ـ يقولون إن بها كنزا مخبوءا تركه بعض جنود
روميل الهاربين بعد اندحار قوات العاصفة في العلمين ويقول البعض الآخر أن
الواحة بها عيون مياه جوفية تشفي من جميع الأمراض وتجدد خلايا الشباب
وهناك من يؤكدون أن بها قصرا مسحورا كقصور الف ليلة وليلة بناه الطوارق
الذين نجوا من طوفان أتلانتس‏...‏ قالها لي صلاح ضابط المعتقل وعيناه
تلمعان ببارق من الفضول والحلم‏.‏

ـ وهل هناك من استطاع أن يقوم بالرحلة ويعود؟‏.‏
بدوره أكد لي أن زايد شاهد حي‏.‏

ـ والذين لم يعودوا؟ أفزع السؤال صلاح بدرجة أذهلتني ولم يلبث أن ابتعد عني مغمغما‏:‏ تلك أسرار المعسكر ولا يمكنني الحديث فيها‏.‏

أسرار
أيضا إذن فلم يكن عباس مخمورا‏..‏ كنت أعرف أن المدن الضائعة والواحات
الغامضة جزء من تراث المرويات الشعبية لدي كل الشعوب وأن الصحراء لها
تأثيرها الخاص علي روادها وقد شملني أنا أيضا هذا التأثير‏:‏ استغرقنني
تلك المساحة التي لا بداية لها ولا نهاية وأبعدتني تماما عن العالم خارج
الصحراء وفي خلال شهور قليلة لم تبق في ذاكرتي البصرية غير ملامح نهير
جالسة علي المقعد تحت شجرة الجوافة وبيدها كتاب‏,‏ واعتقد أنها ربما كانت
بدورها تعيش صحراءها الخاصة‏,‏ ولكن صحراء نهير لم تعد أن تكون حالة ذهنية
غير صحرائي تلك التي جعلت عالمي الحقيقي هو المعتقل والفيافي المحيطة به‏.‏

التقيت
بعباس في حصة الغداء كانت نظرته لي عابسة مليئة بالسخرية‏,‏ ولم يلبث أن
أشاح بوجهه عني تابعته أحمل وجبتي وجلست بجواره وهو يأكل لم يعلق بكلمة
ولم يبد أي اهتمام بوجودي وبعد لحظات وجدت شخصا آخر يتحدث علي لساني‏:‏
أمازلت تفكر في الرحلة؟ دون أن يلتفت إلي أجابني‏:‏ وسأبدأها غدا وعلي
الفور أجابه الشخص الذي تقمصني‏:‏ وأنا معك‏!‏ أي خبل اندفعت إليه ومن ذا
الذي أنطقني بهذه الكلمات وإذا كنت قد ندمت بعدها مباشرة فكيف انسحب؟ خطر
لي أن أخبر صلاح حتي يمنعني وقد فوجئت برد فعله علي كلماتي‏..‏ لم أره من
قبل ثائرا كما رأيته هذه المرة إذ هب واقفا وقد اربد وجهه وانتفخت
أوداجه‏:‏ لعلك لم تعرف قواعد البقاء في هذا المعتقل بعد؟ هذا المكان بلا
أسوار وليست له أبواب يقف عليها سجانون‏..‏ إنه معتقل مفتوح‏..‏ تدخله
قهرا ولكن لا أحد يمنعك من الخروج‏..‏ أخرج الآن وحاول الهرب ولن تجد من
يمنعك‏..‏ الحكومة أذكي منك ومن أمثالك الشيوعيين فلا ترتكب هذا الخطأ مرة
أخري‏!‏ أعرف أنك تعودت الوشاية برفاقك منذ طفولتك وأنك خائن بالسليقة وقد
قبلناك هنا لنعيد تربيتك وخرجت من لقائي بصلاح ذاهلا لا أعلم أهو معتقل
حكومي لمعاقبة الشيوعيين أم هو معتقل شيوعي لإعادة التأهيل؟‏.‏

لم
يجد أمامه غير أن يذهب للرفيق العجوز عمانويل بطرس ويضع حيرته بين يديه
وضحك الرجل ضحكته اليسيرة المبتورة ـ هو علي حق حين أخبرك أن الحكومة أذكي
منا جميعا وأنا شخصيا أشك في أنها قد خترعت حدوتة الواحة لتدفع أحدنا بعد
الآخر لمحاولة الهرب‏(‏ الرفيق عمانويل كان يؤكد أن الواحة ما هي إلا
الحرية فهي معني وليست مكانا وأن كل من يقبل علي مغامرة البحث عن الواحة
إنما كان في الحقيقة يبحث عن حريته‏)‏ وبالتالي فقد غضب منك الضابط صلاح
لأنك تريد أن تكذب قصة الواحة‏!‏ تركت الشيوعي وغرقت في طوفان من الأسئلة
المتلاطمة يأخذ بعضها بخناق البعض‏..‏ لماذا الشيوعيون الآن والوقت وقت
جماعات السلفيين وعصابات الإرهاب؟ ولماذا أتوا به وملفاتهم تقطع بعدم وجود
أي صلة بينه وبين الشيوعيين حتي من أهله وما الجدوي وهم يحرضونه بطرقهم
الخاصة علي الفرار إلي الواحة‏.‏

في منتصف تلك الليلة قرر أن يغامر ويصحب عباس في رحلته‏.‏