شــئون عربيــة بقلم : د‏.‏ ليلي تكلا

من طرف جواهر الثلاثاء أبريل 14, 2009 3:53 pm

شــئون عربيــة
بقلم : د‏.‏ ليلي تكلا

عقدت
قمة الدوحة وانفضت‏..‏ بحثت عما جاءت به فلم أجد شيئا‏,‏ وتابعت ما جاء
بها فإذا به تكرار لما قيل منذ بداية القمم‏,‏ باستثناء واحد هو أن
الخصومة اليوم ليست بين العرب ومحتل غاصب بقدر ما هي بين العرب وبعضهم‏.‏

كانت
قمة المصالحة‏,‏ والمصالحة تقتضي المصارحة‏,‏ وهذه تتطلب نضجا سياسيا
معينا يقوم علي قيم معينة‏,‏ منها تغليب الحكمة والاتزان‏,‏ علي الاندفاع
والتهور‏,‏ ومعالجة الأمور من جذورها‏,‏ وعلاقة تقوم علي التكامل بدل
التنافس‏,‏ فهل لدينا مقومات النضج؟

احتار العقل في بحثه عن
الإجابة‏,‏ ومر أمامه شريط من الذكريات والمواقف تعكس سلوكا علينا
تصحيحه‏,‏ أشير من بينها إلي أمرين قد يبدو كل منهما بسيطا في ظاهره‏,‏
لكنه عميق في مغزاه‏.‏
‏
***‏
الأول
يعكس تفضيل الاندفاع علي الحكمة‏,‏ هو تلك الضجة التي قامت حول موقف أمين
العرب عمرو موسي في ندوة دافوس‏.‏ ارتكب بيريز في حديثه الكثير من الأخطاء
يقترب بعضها إلي الأكاذيب‏,‏ ورفض رئيس الجلسة إعطاء الكلمة لرئيس وزراء
تركيا للرد‏,‏ قرر أردوغان الاعتراض بترك الجلسة‏,‏

كان موقفه
كريما نابعا من أمرين‏:‏ أولهما عدم الرد علي ادعاءات بيريز‏,‏ وثانيا ما
اعتبره إهانة لبلده بعدم إعطائه الكلمة‏,‏ والعرب بل وكل أنصار الإنسانية
والسلام يقدرون موقفه‏,‏ وبسرعة اتجهت بعض الأصوات العربية للمقارنة بين
موقفه وموقف عمرو موسي مع ما بين الأمرين من اختلاف‏,‏ ليجدوا فرصة جديدة
يكيلون منها الاتهامات يمينا ويسارا‏,‏ خاصة إذا كانت السهام موجهة لمصر
أو لمصري‏.‏

وأعتقد شخصيا أن موسي اتخذ
القرار السليم‏,‏ فهو لم يلوح بذراعيه ويضرب الأرض بقدميه‏!‏ بل قام من
مكانه ليصافح أردوغان تقديرا لموقفه‏,‏ لكن لم يتبعه خروجا من الساحة‏,‏
كان القرار حكيما لأسباب منها‏:‏
‏*‏ موسي لا يمثل دولة عربية
واحدة بذاتها‏,‏ ولا نفسه‏,‏ بل يمثل جميع العرب‏,‏ وليس من حقه أن يتخذ
موقفا معينا بمقاطعة اجتماع دولي‏,‏ أو ندوة دولية بإرادته وحده‏,‏ أو
مندفعا وراء حماسه مهما كانت مشاعره الشخصية‏.‏
‏
*‏ لم يترك الساحة
لينفرد بها بيريز في غياب الرأي العربي‏,‏ هذا إلي جانب أن المبالغة في
المقاطعة والتزيد في الاعتراض بأشكاله العنيفة سمة خسر بسببها العرب
كثيرا‏,‏ وأصبحت لصيقة بأسلوبهم وشخصيتهم‏,‏ ولم تكن يوما مثارا
للإعجاب‏,‏ بل للتعجب والنقد‏.‏
‏
*‏ خروجه كان سوف ينتقص من قوة
موقف أردوغان الذي أقبل عليه ليس لأنه عربي‏,‏ بل برغم أنه ليس عربيا‏,‏
وهذه شهادة أكثر قوة ووقعا من أي اعتراض عربي‏.‏
‏
*‏ ثم إن لموسي
من المواقف الحازمة الواضحة ما يغنيه أن يسعي لموقف جديد من أجل تسجيل
بطولات أو شعبية‏.‏ إن الأصالة المصرية كامنة في وجدانه تحميه من الهرجلة
السياسية‏.‏
‏
*‏ أعتقد أن موسي قد تعلم من الأحداث ومن التعامل مع
العرب عدم الاندفاع‏,‏ بل التروي وتغليب الحكمة علي العواطف‏,‏ وقد لمس
العالم حكمة مثل ذلك الموقف المصري إبان الهجوم علي غزة عندما انقلبت بعض
الاتجاهات والقوي علي مصر تكيل الاتهامات‏,‏ وحشدت مظاهرات أمام
سفاراتها‏,‏ واختزلت قضية شعب فلسطين المكافح المقهور إلي مسألة فتح معبر
رفح‏.‏

مصر لم تهتز‏,‏ استمرت ترعي مصالح الضحية الأولي في المأساة
وهم أهالي غزة‏.‏ أرسلت المعونات والمؤن‏,‏ وتم نقل المصابين للعلاج‏,‏
عقدت القمة الدولية‏,‏ ثم عقد اجتماع إعمار عزة‏..‏ إلخ‏,‏ اختارت العمل
علي أرض الواقع لتخفيف المعاناة وحسم المواقف بدل الاتجاه إلي حرب
الميكروفونات والشاشات‏,‏ وحوارات الاتهامات‏.‏
‏
***‏
الأمر
الثاني يتعلق بالقدرة علي ترتيب الأولويات‏,‏ فقد أجمع المنطق والفكر
الثاقب والرأي العام العالمي أنه لا خروج لشعب فلسطين من أزماتهم المتكررة
وما يعانونه عسكريا وسياسيا واقتصاديا‏,‏ إلا إذا اتفقت الفصائل وأصبحت
فلسطين دولة واحدة‏,‏ وإن الانشقاق هو ألد أعداء شعب فلسطين‏,‏ وأكثر
ضراوة من العدو الصهيوني وأسلحته ودهائه‏.‏

هذه المصالحة
الفلسطينية ـ الفلسطينية هي نقطة البداية الحقيقية‏,‏ وهي الهدف الذي تسعي
إليه مصر في صبر وإصرار‏,‏ ومعاناة مسئولية ضخمة تقوم بها شخصية تفخر
بمصريتها‏,‏ وتفخر بها مصر‏.‏ شخصية جمعت بين بصيرة عمر بن الخطاب‏,‏
وحكمة سليمان تستحق دائما كل تقدير واحترام‏,‏ لديها من المقومات العلمية
والسياسية والدبلوماسية والشخصية ما جعلها قادرة علي مواجهة هذا التحدي‏,‏
وتحقيق تقدم ملموس بكل هدوء وثقة دون ضجيج أو شعارات‏.‏

انعقدت
جولات الحوار الفلسطيني وتم الاتفاق علي‏15‏ نقطة من نقاط الاختلاف التي
بلغ عددها‏18.‏ هذه الحقيقة مع أهميتها‏,‏ وهذه الجولات التي بدونها لن
نري حلا‏,‏ لا يستوعب الفكر العربي‏,‏ ولا الإعلام العربي أهميتها
وضرورتها كركيزة أولي في حل مشكلات فلسطين‏.‏

وبينما مصر تقوم بهذه
المهمة الأساسية يصدر تصريح غريب بأن خسائر غزو غزة في الأرواح لم تتجاوز
خمسين شخصا‏!!,‏ هكذا‏,‏ وكان مئات المئات من الضحايا الذين قتلوا‏,‏
ومثلهم ممن جرحوا وفقدوا عائلاتهم ومنازلهم وممتلكاتهم‏,‏ ولم يكونوا
مختبئين تحت الأرض‏,‏ كأن كل هؤلاء الأفراد من أهالي غزة‏,‏ أرواحهم لا
قيمة لها وقتلهم غير محسوب ولا يعد ضمن خسائر ذلك العدوان الغاشم‏.‏

إن
التاريخ سوف يذكر دائما لمصر ما تفعل‏,‏ وسيذكر لهؤلاء أنهم جعلوا شباب
فلسطين وأطفالها ونساءها خارج دائرة الحسابات‏,‏ مع أنهم وحدهم الذين
دائما يدفعون ثمن الارتجال والاندفاع والمواجهة دون استعداد‏.‏
‏
***‏
هذا
قليل من كثير استثارته القمة من أمور تفسر عدم القدرة علي المصالحة‏,‏
وتؤكد أنه علينا أن نبدأ بتعديل إطار سلوكنا قبل مطالبة الغير باحترام
مطالبنا‏.‏ إنها شئون عربية‏..‏ ولعلها في واقع الأمر شجون عربية‏,‏ أتمني
ألا تكون لها بقية‏.‏