شق النهار‏(17)‏ حكي الرمال‏..!‏ بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف trm tarm الخميس أبريل 23, 2009 1:50 pm

شق النهار‏(17)‏ حكي الرمال‏..!‏
بقلم : أسامة أنور عكاشة

منذ اللحظة الأولي تولي الشاعر الحزين قيادة الرحلة ونصب نفسه مرشدا‏.‏

علي تبة الضحي جلس‏..‏ الشاعر يلقي بالتعليمات وشوقي يستمع‏:‏

ـ سنبدأ مع غروب الشمس بعد أن تنكسر حرارة النهار‏..‏ سنسير ليلا وننام نهارا

هذه أول خطوة وربما التقينا بقافلة في الطريق ننضم إليها ونأتنس بالمسافرين فيها‏..‏

اذهب
الآن ونم الساعات الباقية حتي موعد الرحيل وكأي تابع غشيم أطاع شوقي
وانتحي بركنه في العنبر الخالي‏(‏ كان سكانه قد ذهبوا للعمل في مزرعة
المعتقل‏)‏ تمني أن يواتيه النوم سريعا وأغمض عينيه وكما تعود في حياته
كلها عليه أن يختار فكرة تشغله أو سؤالا يبحث عن إجابة عنه لينزلق إلي
سرداب النوم العميق‏,‏ اختار هذه المرة أن يفكر في أي سبب لقيامه بمغامرة
الارتماء في أحضان صحراء تبدو كأنها الربع الخالي‏,‏ وكان السؤال الذي
تركه علي حافة اليقظة‏:‏ لماذا لم يصحبه رفيق رحلته الي حصة النوم؟

وأدهشه
وقد استسلم لغاشية الأغوار السحيقة أن يري أباه وشقيقه الشهيد وهما
يشاركان الرفاق في العمل بالمزرعة وأدرك أنه يحلم ولكنه لم يقاوم وترك
نفسه ليتابع النقاش الحاد الذي جري بين الأب والشقيق من ناحية‏,‏ وعباس من
الناحية الأخري‏..‏ كان يشاهدهم دون أن يسمع كلمة من نقاشهم الذي لاحظ أنه
يدور حوله هو بالذات لأنهم كانوا ينظرون نحوه بين الفينة والفينة ويشيرون
بأصابعهم في اتجاهه ومع إدراكه هذا فقد قرر في داخله بخبث من يعلم أنه
يحلم بأن يعاقبهم بالصمت ويتركهم لينفجروا حول أنفسهم فظل صامتا ونسي كل
شيء وساد أعماقه سلام استمر حتي النهاية‏.‏

أيقظه عباس حين انحدرت
الشمس الي المغيب ووجده قد تولي عنه إعداد مؤونة الرحلة في حقائب جيش
قديمة من القماش السميك يتم حملها علي الظهر وتحوي زمزمية مياه وأدوات
إسعاف أولية وعلب أطعمة محفوظة مع الزلوط الصعيدي وخبز البط البحراوي
جمعها من بعض الرفاق ومسئول الكانتين في المعسكر‏..‏ ابتسم وهو يتذكر أيام
الكشافة في المدرسة ورحلات الجوالة في الجامعة يعني متدرب سابق ولا تنقصني
الخبرة‏.‏

نخر عباس بأنفه ساخرا وهو يعلق‏:‏ ولكنك لن ترجع للست مامتك آخر النهار‏.‏

بادله شوقي المزاح بأنه سيعتبره مامته طوال الرحلة‏.‏

أطل
قمر بدا وكأنه سيلامس ذلك الكثيب الرملي عند حافة الأفق حين التفت عباس
إليه متفاخرا‏:‏ اختياري لليوم كان دقيقا فستكون ليالي الرحلة كلها مقمرة
ولن تنتهي إلا مع تآكل البدر وتحوله الي المحاق‏.‏

ـ ولكن أرأيت
كيف ابتسم لنا الضابط صلاح حين لقينا ونحن نعبر السياج الخلفي للمعسكر‏..‏
انه لم يكتف بالابتسامة بل غمز بطرف عينه وكأنه يشجعنا؟‏!‏

ـ لا
أعرف هل أنت ساذج حقا أم تتظاهر بذلك‏..‏ انه ياحضرة الرفيق المناضل كان
يسخر منك وكأنه يقول لك باي باي وابقي قابلني فقد مر عليه كثيرون من
الرحالة قبلنا ولم يعد منهم أحد‏.‏

ـ بشرك الله بالخير وشكرا لرفع الحالة المعنوية‏.‏

ساد
بعدها صمت طويل بدا خلاله عباس وكأنه يطارد شيطان شعره بينما كان صاحبنا
شوقي يردد في أعماقه سؤالا عن المسافة التي سيقطعانها قبل أن تكل السيقان
وتتصارع الأنفاس‏,‏ وطمأن نفسه بأنه قد أقلع عن التدخين منذ سنوات بعد أن
أصيب بدور التهاب رئوي حاد وقال له الطبيب بعد أن شفي محذرا‏:‏ توقف عن
التدخين فقلبك يشاور عقله لم يكابر بل أحس بفزع يزلزل كيانه ولم يدخن
سيجارة واحدة بعدها ولكن السير في الرمال أكثر ارهاقا ومشقة برغم الكوتشي
الخفيف الذي انتعلاه‏,‏ وحين اشتكي أجابه عباس بلهجة مقتضبة أقرب الي
التأنيب‏:‏ بعد قليل سنصل الي المدق وسيكون صلبا ولن تغوص قدماك
الرقيقتان‏,‏ كانت تبدو علي الشاعر الحزين تجليات خبرة قديمة‏(‏ أخبره ذات
ليلة أنه تدرب طويلا علي طوابير الذنب التي كان يسير في كل منها ما يزيد
علي الخمسة كيلومترات تحت سياط جنود السواري الراكبين‏)‏ ولكنه ـ شوقي ـ
تذكر أن أطول مشوار قطعه في حياته هو سيره بطول الطريق المرصوف بين منزله
في أسوان ومكان عمله في الخزان‏.‏

كانت مرة وحيدة ولم تتكرر‏.‏
فجأة أفاق من شروده علي ضحكة عباس‏,‏ التفت له مستفهما فبدا وكأنه شخص آخر
ملئ بالحيوية والتفاؤل بل والشقاوة أيضا‏,‏ لم تطل دهشة شوقي فقد قطعها
عباس في واحدة من غزواته التي كانت تنتابه كلما هادنه شيطانه‏.‏

ـ
عرفت الآن ما قصده الشاعر الذي قال وعند الصباح يحمد القوم السري وعندما
تشرق عليك شمس الغد وتضربك بسياطها فستفهم أنت أيضا معني البيت ولكن أتعرف
أن شعراء الجاهلية والمخضرمين وما تبعهم منذ كعب بن زهير وحتي
المتنبي‏...‏ كل فيلق الشعراء الفطاحل الذين نملأ حناجرنا بأبياتهم
الفخيمة كانوا كذلك لأنهم أبناء البادية وأصحاب القوافل التي جابت صحراء
شبه الجزيرة ولم يكن لهم من وسيلة تعبر غير الشعر‏.‏

ـ لعلك تذكرت
معلقة امرؤ القيس قفا نبكي‏...‏ ولكني لا أعرف حتي الآن لماذا وصف الليل
بموج البحر الذي أرخي سدوله عليه بأنواع الهموم ليبتليه‏..‏ أتعرف أنت
المعني ياشاعر الصحراء؟

ـ أول ما شطحت نطحت‏..‏ تكلمني عن الشعر فتبدأ بامرؤ القيس شخصيا‏..‏ سؤال‏.‏

كان
الحوار يتصل بينهما حينا وينقطع أحيانا ولكنه كان يقرب المسافة بينهما
وكانت الخطوات قد وصلت الي المدق حين أنزل عباس حقيبته عن كتفيه ودعا
صاحبه ليفعل مثله ويستريحا قليلا‏.‏

نظر شوقي الي ساعته وهمس لصاحبه وهو يقعي بجواره‏:‏

الساعة تعدت الثامنة بالكاد‏..‏ ومازال الليل طويلا‏.‏