أشواك الحب

القانون يسكنه الشيطان.. أحياناً!!


ضوء المصباح يرتعش علي جدار الغرفة الفقيرة في زقاق من أزقة عشش الصفيح
المظلمة وهو جالس إلي كتبه يلتهم سطورها بعينيه كي يحقق حلم أبيه في
التخرج والحصول علي وظيفة حكومية تؤمن له مرتباً ثابتا ينسيه طفولته التي
ضاعت علي أرصفة الزقاق وصباه الذي تاه في ظلام الليل وتمزق في دروب
الفقر.. وليالي حرمانه الطويل التي جفت فيها معدته من الجوع والعطش.

يأتيه صوت أبيه يناديه أن يعطيه دواء السعال فيقترب منه متألماً. فقد
مضت شهور طويلة وهو مستلق علي ما يشبه الفراش.. جسده يختفي في بقايا أغطية
بالية ورأسه ملفوف بشال ممزق ووجهه تكسوه صفرة الموت.. كلما اقترب منه أو
ناوله شيئاً راح يحدق فيه بقوة وكأنما يذكره بما بينهما من عهود. فقد حرم
نفسه من كل شيء ليوفر له المصروفات الدراسية والكتب. وعندما تمكن منه
المرض خرجت أمه تجلس علي الرصيف.. تبيع خضرواتها الطازجة لسكان الزقاق
بأسعار رخيصة وتوزع مع ما تبيع ابتسامتها التي تجعلها قريبة من القلوب.

الغضب يفور في داخله فيخرج إلي شوارع المدينة تطارده نظرات أبيه
النفاذة المرتجفة السابحة في بحر من الخجل والتوسلات. فيضم قميصه إلي صدره
وكأنه يحاول إعادة شيء غال قفز من بين ضلوعه.

في الزقاق نفسه كانت تعيش سوسن تنتظر بفارغ الصبر لحظة أن يأتي
طالباً يدها من أهلها.. رويداً رويداً. بدأت تفقد صبرها وينتابها اليأس.
حتي كانت ليلة سماعه نبأ زواجها من ثري عربي أخذها بحقيبة ملابسها وطار
بها إلي إحدي دول الخليج!!

عندما استيقظ في الصباح لمح دموعه وقد رسمت شيئاً علي الوسادة يشبه
القلب المحطم. فقرر أن يهزم الحب وبقايا أحلام الليل المضطربة ووجهها الذي
رسمه علي ضوء ليلة عيد ميلادها الماضي.

تسرقه شجرة تزهو أمام المسجد المقابل تتراقص فروعها في نشوة فتتسلق
عيناه الجدار إلي المئذنة الشامخة التي ينطلق منها الأذان ويشعره برهبة.
لكن صراخ طفلة علي ناصية الشارع يحرمه متعة الخشوع والتوحد.

طفلة رثة الثياب تكاد ساقاها النحيلتان لا تقويان علي حملها من طول
الوقفة.. في عينيها الواسعتين حزن دامي. ووجهها الناعم الدقيق التقاطيع
ينم عن عمر لا يتجاوز العاشرة.. وقفت تتسول بعض القروش لتشتري الطعام
لأسرتها الفقيرة. لكن صبياً ضخم الجثة جاء ينافسها في رزقها.. ضربها
واستولي علي حصيلة اليوم. ثم جاءت سيارة الشرطة وانطلق العساكر يمسكون
بالصبية الصغار وهم يقفون أمامهم مذعورين وكأنهم مجرمين آثمين يطلبون
الرحمة والعفو والتوبة.

كانت الشمس تميل إلي الغروب عندما عاد إلي الزقاق.. سمع أبيه يسعل
ويبكي. ولم يجد أمه في البيت.. مات عم فرغلي بائع الفول المتجول وترك في
غرفته خمسة جنيهات وزوجة وستة من الأطفال.

عم فرغلي ليس له بلد ولا أهل.. عاش فقيراً معدماً يبدأ يومه في ساعة
مبكرة من الصباح ولا ينتهي قبل منتصف الليل وقد ظل يبحث عن عمل يعيد إليه
إنسانيته المفقودة في مجتمع يقهر الضعيف والمحتاج. بل يأخذه إلي هاوية
الجنون حتي مات منسياً مغموراً ودفنوه في مقابر الصدقة.

يتواري تحت الأغطية كي لا يسمع صيحات العويل والبكاء لكنه لم يستطع
النوم.. كيف ينام وأطفال أبرياء يبيتون في التخشيبة لأنهم لم يجدوا في
بيوتهم رغيف خبز فتجاسروا ووقفوا في الشوارع يطاردون راكبي السيارات
الفارهة بالتوسل والدعاء طمعاً في ثمن بعض طعام يوقف دقات الجوع في بطونهم
الخاوية.

لقد درس العدل في مدرجات الحقوق. وها هو يكتشف أنه لا يكفي لأن تصرخ
طالباً عدلاً لتسترد حقك المشروع المسلوب. ففي دروب الحياة يسقط العدل
أحياناً رغم ما يقوله القانون.

القانون في أيامنا هذه يمكن أن يسكن جسمه الشيطان ولا يخرج أبداً
طالما يحرسه الفساد ويقدم له الطغاة الذبائح والقرابين كي يمنحهم صكوك
البراءة والغفران. ويجرم الضعفاء المظلومين.. فما يعيشه وأمثاله من
الفقراء المعدمين المسحوقين يذكره بالظلم الاجتماعي الذي عاناه ملايين
المصريين في الأربعينيات بسبب قانون وعرف يحط من قدر الرجل بالفقر وذل
الحاجة والعجز ويحطم كرامة المرأة بالجوع والعري ويشرد الطفولة بالجهل
والمرض.

قانون جامد غبي ينفي الفقير خلف الأسوار لسرقته خبزاً أشبع به جوعه
وجوع أولاده. ويرمي بامرأة في الزنزانة لأنها لم تستطع أن توفر القوت
لأطفالها فاحترفت الدعارة.. ويطارد الأطفال في الشوارع لأنهم يتسولون ثمن
رغيف الخبز.

ها هي قوانين الأربعينيات تعود.. تسود وتحكم المصريين الآن. مثلما
عادت تسود وتحكم تلك الأعراف والتقاليد المصرية البالية التي تحترم الموظف
الحكومي خريج الجامعة فقط. دون القوي الاجتماعية الأخري كالتجار والصناع
والعمال وخريجي المدارس والمعاهد المتوسطة والعليا.. فإذا أتيحت لشاب فرصة
الحصول علي واسطة فإن هدفه الوحيد بعد ذلك هو العمل بوظيفة حكومية تؤمن له
راتباً شهرياً منتظما لا سيما في قطاع البترول. وكان نتيجة هذا أن اندفع
الأجانب في ميدان التجارة والصناعة يمتلكون
الشركات التجارية والصناعية والسياحية والأراضي والمنتجعات والأبراج السكنية والفندقية.


لا يزال المجتمع ينظر بعين الاحترام والتقدير لخريج الجامعة بينما
يصوب نظرات الاحتقار والدونية إلي خريجي المعاهد الفنية.. بل لا تزال
الأسرة المصرية تختار لبناتها الزوج الموظف وإن كان محدود الدخل. وترفض
العامل الحر وإن ارتفع دخله.

الطبقية الصارخة تحكم مقدرات الناس وكل شيء في جميع مناحي الحياة..
في السكن والتعليم والصحة والغذاء والكساء وكافة الخدمات.. الأثرياء
يسكنون القصور والفيللات الفاخرة والفقراء تحاصرهم الفئران في البدروم
والحواري والأزقة والعشوائيات..

الأكاديميات يتخرج منها أبناء الذوات. والكليات التي تحمل أسماء
أجنبية يدخلها أولاد البهوات. بينما يتهافت علي المعاهد المتوسطة أبناء
العمال والأسطوات واختصاراً للوقت والنفقات.

أصحاب الثروة والسلطة يحظون برعاية صحية كاملة في مستشفيات استثمارية
تمنحهم الصحة والحيوية وإكسير الحياة والبركات. والناس الغلابة يفترشون
أرصفة وسلالم الحكومة والتأمين الصحي طمعاً في حبة دواء قد يكون فاسداً أو
مغشوشاً!

الأغنياء طعامهم يصل طازجاً بالطائرات عبر القارات.. والفقراء ينبشون
بأظافرهم أكوام الزبالة بحثاً عن بقايا طعام طاله العفن والقاذورات..
ملابسهم من بالات الوكالة والعتبة.. تستر أجسادهم بالكاد. والآخرون يرفلون
في الحرير والفرير والذهب والمجوهرات.

الطبقية الصارخة تدوس المشاعر والأحاسيس وتنكل بالحب والحق والشهامة
والفروسية. فأيامنا هذه ليست أيام العشق القديم والفروسية والوطنية
والولاء والانتماء في زمن الفوضي والإضرابات والاعتصامات.. زمن غابت فيه
العدالة الإنسانية. وماتت القيم ورحل الضمير والأخلاق.. زمن ينتصر فيه
الشر علي الخير والقسوة علي العواطف الرومانسية والاستبداد الذي يدفع نحو
النهايات المحتومة لنسيان الإحساس الطاغي بالظلم وتوسل أطياف الشفافية
التي أصبحت مصدراً للرعب!

القوانين الإلهية تقول إننا لا نولد مجرمين أو أشراراً. ولكن المجتمع
بنظمه وقوانينه هو الذي يجعل منا أفراداً صالحين أو متمردين أو مجرمين
عتاة.. وما دام الاختناق الاجتماعي مستمراً. فالحصاد مزيد من الغضب والبؤس
الذي يولد الانفجار.

وضحايا بالمئات نحتسبهم شهداء عند الله.. شهداء الفقر والحب المستحيل
والكرامة والعزلة والوحدة والصمت. وهؤلاء الذين اغتالت أحلامهم نظام
تعليمي عشوائي. يتغير بتغير الوزراء وخدمات طبية وصحية تفتقر الضمير
والأخلاق والخوف من الله.

القوانين والأعراف التي تحكم الآن تمنح حق الحياة لمن يجيد فن
العلاقات العامة ومداهنة الحكام والمسئولين.. يلعب كالبهلوان علي كل
الحبال ويغير جلده وقناع وجهه وفقاً لمصالحه وطموحاته كلما اقتضي الأمر!

ما يحدث في مجتمعنا الآن جريمة اغتيال.. اغتيال الثقافة والمثل
والقيم وكل المقدسات.. فهل يأتي من يدافع عن العدالة وقدسيتها ويهاجم
الظلم والفساد والرياء والنفاق وهذا الجفاء الذي طال علاقات الناس وصلة
الرحم والدم في بيوت تتشح بالسواد ومدن وكفور ونجوع ترتدي ثوب الحداد؟!