رحيل موشح أندلسي بقلم‏:‏ د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

من طرف مشمشة الأربعاء أبريل 29, 2009 9:57 am

رحيل موشح أندلسي
بقلم‏:‏ د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

تكاد
تكون حياة الفنان الليبي الراحل حسن عريبي موشحا أندلسيا عامرا بالإيقاعات
والدندشات والزخرفات والأنغام اللحنية الجميلة المتنوعة‏,‏ التي تعكس روح
الشرق‏,‏ وتمثل خير تمثيل تراث الأسلاف الموسيقي‏,‏ ذلك التراث الأندلسي
الذي اغتني بحضارة الشرق في الأندلس‏,‏ ورحل مع رحيل أهلها عقب سقوط
غرناطة إلي بقية أصقاع الوطن العربي‏.‏ كرس حياته لجمع هذا التراث من
الزوايا القرآنية‏,‏ والأربطة‏,‏ وحلقات الذكر‏,‏ والموالد‏,‏ وفرق
الإنشاد الديني‏,‏ واحتفالات المولد النبوي في المساجد‏,‏ حيث تتلي
المدائح النبوية‏,‏ وأنشأ فرقة موسيقية حديثة وكورسا مدربا من أجمل
الأصوات الرجالية والنسائية‏,‏ وأسس لهذا التراث الأندلسي قاعدة لانطلاقه
وإعادة بثه في العالم أجمع‏,‏ وأنشأ مركزا لحفظه وتسجيله في أشرطة تسجيل
مسموعة‏,‏ وأشرطة تسجيل مرئية‏,‏ وأقراص ممغنطة ليبقي محفوظا غير قابل
للضياع‏,‏ إيمانا منه كما يقول بالحرف الواحد‏:‏ إيماني الشخصي بهذا
الفن‏,‏ أي فن الموسيقي الشرقية‏,‏ لأنني أرفض التغرب‏,‏ وأحب أن أكون
عربيا ليبيا أنطق بالحرف العربي‏,‏ وأتغني بالنغم العربي‏,‏ نعم لا أريد
أن أتغرب‏,‏ وهو ما يجعلني أحافظ علي الموسيقي العربية‏,‏ وأدعو كذلك
الأجيال المقبلة للحفاظ علي الموسيقي العربية‏,‏ لقد رأي بحسه العربي‏,‏
الفيضان الفني القادم من الغرب‏,‏ ورأي أن يصنع للفن العربي محمية لا
يصلها هذا الفيضان تكون عنوانا لهذا الفن‏,‏ ورمزا له‏,‏ وتأصيلا وتجديدا
لما تراكم عبر الزمان من ألحان‏.‏ وأضاف إلي هذا التراث ما قام بتلحينه من
تآليف موسيقية مقتبسة من المعين نفسه مثل قصيدة المنفرجة التي أخرجها من
التراث وقدمها للمستمعين والمشاهدين العرب‏,‏ فنالت الشعبية الواسعة في
شرق الوطن العربي ومغربه‏,‏ ونالت تشجيع زعماء مثل القائد القذافي‏,‏
وملوك مثل الملك الحسن الثاني وغيرهما تبنوا هذا العمل وسعوا لإعانته علي
نشره وتسجيله وتوزيعه وتقديمه في المحافل العربية‏,‏ ولم يكن هذا الجهد في
التوثيق والتأليف الموسيقي ينفصل عن جهده في التأصيل النظري لفنون
الموسيقي العربية‏,‏ فهو فنان مثقف صاحب ثقافة تخصصية من أعلي طراز في هذا
المجال‏,‏ فكان مهما أن يردف بهذه الثقافة جهده التأسيسي في صنع مكتبة
للموسيقي الأندلسية بحيث ظل يواصل حملات التوعية والترشيد والتنوير في
بحوثه ومحاضراته ودروسه لتلاميذه ومريديه‏.‏

ولم يكن غريبا بعد ذلك
أن يعقد له لواء الريادة والرئاسة في مجمع الموسيقي العربية ليحوز علي
رئاسته لعدة دورات تسلمها من زميله وأستاذه في المعهد الرشيدي التونسي
الذي أمضي فيه عدة سنوات الدكتور صالح المهدي‏,‏ كما لم يكن غريبا أن يعهد
إليه في مؤتمر الموسيقي الشرقية الذي عقد في سمرقند برئاسة ذلك المؤتمر
الذي حضره‏480‏ وفدا أجمعوا كلهم علي اختياره رئيسا للمؤتمر الثاني
المنعقد هناك عام‏1981,‏ وكان لأفكاره في ذلك المؤتمر تأثير كبير في وضع
أسس للحفاظ علي الشخصية المستقلة للموسيقي الشرقية‏,‏ واحترام كيانها في
بلدان تتزاحم فيها الثقافة‏,‏ وتكاد تسلم قيادها للموسيقي الغربية‏,‏ لا
كراهية لتلك الموسيقي كما يقول الأستاذ حسن عريبي‏,‏ ولا تعصبا لمصلحة
الموسيقي الشرقية ضدها‏,‏ ولكن حفاظا علي التنوع والخصوبة في منابع الفنون
والآداب فلا تطغي شخصية واحدة‏,‏ ولا يطغي طابع واحد يؤدي بنا إلي التنميط
والنمذجة‏,‏ وضياع الهويات والثقافات‏.‏

حسن عريبي صاحب اتجاه صوفي
أيضا‏,‏ وله اتصال وثيق ببعض شيوخ الطرق الصوفية الذين بدأت علاقته بهم من
أجل الحصول علي الابتهالات والمدائح‏,‏ ثم تغيرت فيما بعد إلي تلمذة في
علم التصوف‏,‏ وحمل الأوراد والتسابيح‏,‏ والقراءة في كتب التصوف‏,‏
ويفاجئ الأصدقاء بحجم محفوظاته من أشعار الصوفيين أمثال ابن الفارض‏,‏
وابن عربي وغيرهما‏,‏ وكان ظنينا بالحديث عن هذا الجانب لا يفصح عنه إلا
للأصدقاء الحميمين من أمثالي‏,‏ لأنه كان يعرف تقديري العميق لهذا الجانب
فيه‏,‏ وإيماني بأنه من أصحاب البركة والكشوفات‏.‏

سيحزن الليبيون
كثيرا علي غياب حسن عريبي لأنه يترك فراغا كبيرا في الساحة الفنية الليبية
التي كان يمثل فيها حضورا فاعلا وقويا علي مدي خمسين عاما‏,‏ وسيفتقده أهل
الفن الشرقي علي مستوي العالم كله‏,‏ إلا أن الأصدقاء القريبين الذين
عرفوا مثلي ثراء شخصيته‏,‏ وجمال ونبل عواطفه‏,‏ واتصلوا بالجوانب الروحية
العميقة‏,‏ والموارد الصوفية الغزيرة لديه سوف يكون افتقادهم له عظيما‏,‏
وخسارتهم فيه خسارة جسيمة فادحة غير قابلة للتعويض‏,‏ وسأذكر في هذا
المقال حكاية صغيرة حدثت لي معه في أثناء لقاء في القاهرة‏,‏ وخطر له أن
يسألني عن أستاذنا نجيب محفوظ وكيفية تنظيم موعد للقائه‏,‏ فقلت‏:‏ نستطيع
أن نراه في اليوم التالي في لقاء الثلاثاء وكان يرافق الأستاذ نجيب محفوظ
في تلك الجلسة عدد من الروائيين‏,‏ من بينهم جمال الغيطاني‏,‏ ويوسف
القعيد‏,‏ ونعيم صبري‏,‏ وما إن نطقت باسم حسن عريبي أقدمه لهم حتي نهض
الأعضاء جميعا ترحيبا وإكبارا وتعظيما للفنان الذي حقق لنفسه مكانة متميزة
في قلوب المثقفين العرب‏,‏ ونهض جمال الغيطاني يعانقه ويقول له‏:‏ إنه كان
دائما يتمني لقاءه وقدمه تقديما جليلا وكريما إلي نجيب محفوظ الذي وقف
يحتضن الفنان حسن عريبي‏,‏ وتركوا جميعا الحديث له ليثري الجلسة من فيض
معارفه‏,‏ فكانت جلسة ظل نجيب محفوظ يذكرني بها ويثني علي جمالها‏,‏
ومازال جمال الغيطاني يذكرها وقد مر عليها بضع سنوات‏,‏ وكان آخر مرة
ذكرني بها منذ أسابيع قليلة مضت عندما التقيته في واشنطن‏,‏ لنشارك معا في
مهرجان الأدب والفن العربي‏,‏ ويسألني عن صحة الأستاذ حسن فأقول له إنه في
تمام العافية‏,‏ ولم أكن أعلم ولا أحد غير خالق الكون يعلم أن الرحيل إلي
دار البقاء كان وشيكا‏,‏ ولقاء وجه ربه قد تحدد في اليوم السادس عشر من
أبريل عام‏2009,‏ وقد أمضي في هذه الحياة أربعة وسبعين عاما قضاها في
التحصيل والعناء ثم الإنتاج والعطاء‏,‏ فترك تراثا فنيا غزيرا كبير
القيمة‏,‏ سيبقي اسمه مذكورا علي مدي التاريخ سادنا أبديا لفن الموسيقي
الشرقية بما حفظه من تراث‏,‏ وشخصية حية خالدة مع عظماء العباقرة من أهل
الإبداع الأدبي والفني‏,‏ تفخر بإبداعهم الأجيال‏,‏ وتستمتع به جيلا بعد
جيل‏.‏

‏fagih@hotmail.com