نسيم‏..‏ الناس الحلوين بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

من طرف ميمو السبت مايو 02, 2009 9:50 am

نسيم‏..‏ الناس الحلوين
بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

كلهم
يغوروا بعيد ويارب الأرض تبلعهم‏..‏ يروحوا في الوبا‏..‏ يقيدوا عليهم نار
الفرن لما يشيط وشهم‏..‏ يرشوهم توكسافين‏..‏ يفرمهم قطر سكة حديد‏..‏
يشمشموا خنازير‏..‏ تاخدهم كوريرة‏..‏ يتوكسوا‏..‏ يتهدوا‏..‏ يطقوا
يموتوا وإنشاالله ما حضروا من أصله ولا أكلوا فسيخ ولا فصصوا رنجة ولا
قشروا البيض الملون ولا قضموا البطارخ ولا قزقزوا الترمس ولا قرقشوا خس
ولا فقعوا عيون الملانة ولا مزمزموا بالمش والـمرتة ولا غمسوا بالمشلتت
ولا‏..‏ شموا النسيم‏..‏ كلهم كلهم إلا هي‏..‏ إلا أم العيون الخضر في لون
غيط برسيم‏,‏ ورموش مكانس واصلة لحد صواني الخد‏,‏ وشعر سبايك دهب كأنه
خيوط الشمس‏,‏ وشفايف من الحمرة جمرة قايدة في جوزة عمرانة تشد منها النفس
تلتهب وتئز وتقول يا ناري‏,‏ وضحكة رايقة رقراقة بذيل طويل ناعم مالوش آخر
يلف سامعها طبقات وراء طبقات بريش النعام مقسمة ألحانها بالعدل علي أبواب
الهواء تستأذن الودن قبل ما تغزوها وتشرنق‏..‏ و‏..‏ خفة ظل مالها حد‏,‏
وشقاوة جدي صغير مالوش ضابط ولا رابط‏..‏

ضيوف الباشا في سرايا
العزبة كلهم يوم شم النسيم كوم وأم العيون الخضر كوم وحدها‏..‏ خوجاية‏..‏
ما تنطقه بلسان بلدها بسرعة مائة كلمة في الدقيقة لا يفهمه الولد‏,‏ تقوله
بحروف متشابهة حاضنة بعضها‏,‏ وبعضها داخل في بعضه‏,‏ وبعضه من كلمة واحدة
متكررة لها نغمة سؤال حفظها الولد إزنتت؟‏,‏ تقولها يوافقها الجميع إما
بهزة رأس تعني نصرتها‏,‏ أو بابتسامة دائمة دلالتها ودي عايزة سؤال؟‏!,‏
أو بالتلامس العاطفي عن طريق الفم أو الزرع جوه الحضن بمفهوم كنت
حقولها‏..‏

فوق الحصير لم يغمض للولد جفن ليلة شم النسيم لطلعة
الفجر‏..‏ أمه جارة الظلام والحصير تغط برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة وقد
تبعثر حولها صغار يتصارعون علي الحلمة المطروحة لمن لا تصحو من التعب حتي
لو نفخ إسرافيل في نفيره‏..‏ ترسل شخيرها لينفذ من الطاقة فيتحد هناك في
الساحة مع بقية شخير أفواه وأرانب أهل البلد يعلو وينخفض في نغمة كورال
جماعية محشرجة بالسعال‏..‏ و‏..‏ مرة واحدة تخرس الأنفاس لا يسمع الولد
حسا ولا حركة ولا حتي كركرة فرخة وكأنه وسط جبانة وليس في رحاب بلدة فيها
ما فيها من خلق الله‏:‏ من ابن آدم لابن آوي لأمه لأخوته الصغار للباشا
هناك في السراي‏..‏ الفجر شقشق وقبل منه بدقائق صحوة الموتي وأمه تطلع علي
السطح تخروش في جريد السقف تجمع أقراص الجلة وتقلب العيش الشمسي علي اليمة
الثانية لأجل بدورها تتحمص‏...‏ قام سحب الحمار من الزريبة غير عابئ
باعتراض جاموسة أخذت تلوك بفمها السباب لأنه تركها تعاني عذاب الوحدة بلا
أنيس كانت معاه يقتلان الوقت بشوية نهيق من عنده علي شوية نعير من
طرفها‏,‏ أهو ونس والسلام‏,‏ وصحيح كان حمار بتاع شي وحا لكنه كان بياخد
حسها‏.‏

أمام البوابة الكبيرة وقف الولد بحماره وسط سرب الحمير في
انتظار وصول الضيوف الأكابر لعل وعسي يطلع في مخ أحدهم يصوروه في لقطة
حمار راكب حمار‏,‏ أو يهز رجليه في بطن الركوبة الحصاوي‏,‏ في نزهة
فلكلورية يدفع بعدها بقشيش يسر البال والخاطر‏...‏ من بعيد علي مدي الشوف
تنبت كل سيارة قادمة للسراي كما نقطة داكنة تتضخم وتكبر تدريجيا مثيرة
لزوبعة تراب عالية‏,‏ وفوق الجسر بالذات تصطك من تحتها ألواح الخشب
بمساميرها الصديء التي قاربت ترك مواقعها لتصدر ضجة كأنها كركبة السحب قبل
ظهور البرق‏,‏ وعندما تستدير لتتوقف يندفع منها للداخل زوار قادمون بضجيج
مظاهرة مفلوت عيارها‏,‏ وضحكات كأنها صراخ خاصة عندما يلتقي المشتاق بمن
شوقه إليه عارما وماشافوش من الصيف اللي فات في مارينا وبورتو وسيدي
عبدالرحمن‏..‏ و‏..‏ معقولة سمسم هنا بالحضن يا وحشة‏!!..‏ وأنا قلت يا رب
مدحت بك يرحم روحه شوية من المسئوليات وييجي علشان نشوفه‏..‏ وإيه رأيك في
المفاجأة دي يا باشا سلوي هانم قالت لي ولا شم ينشم إلا نسيم معاليك‏!..‏
طبعا يا روحي كان لازم تيجي تروحي عن نفسك شوية ده المرحوم ذات نفسه طول
عمره كان بمخ مفتوح ومالوش في النكد وعموما ارتاح ولو كان عرف اللي جري
كان طب مات من جديد والحزن في القلب يا حبيبتي وأنا شايفة كفاية الأسود
خلاص فات الأربعين؟‏!..‏ جالك كلامي أنا راهنت ان الولية جاية لأنها
ماتعتقشي دعوة تنزل فيها صورتها بعد النيولوك‏..‏ يا دي النور البيت
بيتكم‏,‏ والسرايا سرايتكم وأنا اللي عندكم ضيف‏,‏ وأي حد تعبان أو حران
أو عرقان من المشوار يتفضل بدون تكليف يرتاح فوق في أي جناح‏,‏ وعموما كل
المراتب طراز ألماني بالكهربا‏,‏ والحمامات كلها جاكوزي‏,‏ وعندنا خبيرة
مساج استاند باي تدلك تطبطب تدلع لزوم الفشخرة وأنا كلي همي إزاي أرضيكم
وعشان خاطري ووحياتي وحياتي لو كان لي عندكم خاطر خدوا راحتكم علي الآخر
ماحدش غريب‏,‏ وما حدش من هوانم معارفنا بيخلع‏...‏ ما غريب إلا الشيطان
يا مونا مور‏..‏ شفت عربية صاحبك سبحان العاطي الوهاب بعد الشبشب
والقبقاب‏.‏ الخفراء ما أن ترامي لأسماعهم ذكر القبقاب وقبلها الشيطان
أخذوا في هش أولاد الشياطين والقباقيب‏..‏ غور بعيد منك له له لها‏.‏

الولد
تراجع في غومة الهش والطرد والإقصاء لبعيد لكن الحمار لم يعجبه القرار‏..‏
نهق وقمص وزرجن متشبثا بوضعه المتقدم ورفث مرتين للوراء معلنا اعتراضه
ليعود الولد متسللا بين الحوافر يحدق في الضيوف القادمين‏..‏ أكثر من
قادمة ترتدي زي فلاحة بكعب عالي وبارفان ديور‏,‏ وفلاح من الطبقة العليوي
قادم بجلباب صعيدي بلون لحم الهوانم وطاقية شبيكة عاوجها علي جانب
القورة‏,‏ وواحدة بكتف مستور لكن قماشها نفد قبل ما تستر الثاني‏,‏ وراجل
فوق الثمانين فانلته صفراء كناري برسم قلب في قلبه شفايف‏,‏ وجدع مجفف كما
خيال المآتة وصاحبته الناشفة زي زعزوعة القصب من ساعة ما فتح لهما السائق
باب المرسيدس التزما بوضع لا يغيرانه كأنهما صبا في قالب ذراعه فيه حول
وسطها المخلع وذراعها محوطاه مثل حية‏,‏ وشابة شكلها نظيف وهدومها بيضاء
كما الملاك الحارس مهمتها رعاية عيل ممقوت وزنان مامته مشغولة في الهنكرة
للست الريسة‏,‏ وراجل مفروض إنه مركز ومحترم لكنه للأسف فافي حالق زلابطة
وكلامه مايص وفاتح قميصه لآخر زرار من تحت الجاكتة‏,‏ وواحد فورياجي ماشي
بعين بجحة وراء زوجة متصابية يوزع إعجابه اللزج في الخفاء علي الصبايا
الحسان‏,‏ وسائق عربة بالملايين يلف يدور يفتح الباب الخلفي بانحناءة تقطم
الظهر لتهبط مسخوطة كما الدودة تقول للهواء هاي‏,‏ وشلة هايصة محشورة في
عربة مبطوطة تقارب مستوي الأرض آخر طراز وسقفها كابورليه ينفتح علي جنب ما
أن ينزل أفرادها حتي يهتفوا ياي‏..‏ وعجوز جلدها العاري مبرقش بالنمش يمشي
في ركابها كلبها المهتاج بطوق ألماظ عامل لي شخصية كأنه صاحب القصر ينبح
بصلف في وجه الحمير الذليلة الخانعة الواقفة بانكسار علي جنب‏,‏ وساعة ما
يزهق حمار منها ويرفع خشمه لفوق يرمح ابن اللولو كما القذيفة للحضن
المكرمش مرتعشا من قمة الانفعال‏...‏ وصناديق ولفائف وعلب وفسيخ وأقفاص
ومواكب ديلفري توصل الطلبات وطراطير وأيس كريم وبرتقال وبيض وديسكو وأنا
بعشقك وكلي لك لميادة وقنابل بمب وشغالات آسياويات وجاتوه وزجاجات تحمل
سرا للباب الخلفي لتأتي للساحة بعدما سكب محتواها في السر فوق صخور
الثلج‏..‏ والزمبليطة في الصالون‏.‏

الخوجاية الحلوة أم العيون
الخضر قفزت من العربة ببنطلون أحمر لون بتاع أمه أبو دكة الذي ترتديه تحت
جلبابها الطويل الأسود تطلع به علي السطح علي كوم السباخ علي التوتة علي
المئذنة لا يشف ولا يرف مثل الآخر الذي تركت صاحبته طراطيفه ممزعة هلاهيل
وهي الأغني حتما من أمه‏!..‏ كتفها العاري اللحم فيه شاهق البياض مرسوم
عليه بالوشم جدع ببرنيطة‏,‏ والنصف الفوقاني كله لا يستره سوي نص شبر قماش
تاركا السرة ظاهرة للعيان والصدر تفاحة خارجة تطل من القفص‏,‏ وحول رقبة
كوز العسل منديل حرير لا يرغب بشقاوة أن يسكن في وضعه المفروض ومكانته‏..‏
الحلوة هللت كمن التقت بالوعد عندما وقع نظرها علي حمار الولد‏..‏ قالت
كبشة كلام وسألت بعدها إزنتت؟‏!..‏

هز الولد رأسه بالموافقة ليفاجأ
بها تحتضن الحمار بشوق مسافر راجع للحبيب‏,‏ بل إنها من نشوة الانفعال
انحنت تقبل المنخار لينتشي المكير يهز منه الأذن والذيل مع رقصة للسيقان
يلوي معها شفته لفوق علي أهبة نهيق بضب ضاحك المبسم‏..‏ تشبثت الحلوة
باعتلائه‏,‏ وما كادت تشرع في مشروعها حتي جاءتها رسالة علي الموبايل كسرت
حدة الاندفاع خاصة مع قدوم صديق من داخل السراي يرحب بها ويجذبها للتعرف
علي الجمع في الداخل‏,‏ فاستدارت ترفع خصلات الذهب من فوق جبهتها وبعينها
غمزت للولد بإشارة خفية مدلولها السري

أنها لابد إليه وإلي حماره
الظريف الفورميدابل عائدة‏..‏ لابد‏..‏ بينه وبينها الآن أسرار ووعد ولقاء
معلق‏...‏ الأصوات والضحكات وطرقعة فتح السدادات والبمب وموسيقي علي كل
صنف ولون تنساب من حديقة السراي لتفترش في الخارج الحقول‏,‏ وتعلو إلي
هامات النخيل‏,‏ وتمشط شعور الصفصاف‏,‏ وتغزو أسقف القش‏,‏ وتتخلل حوائط
الطين‏,‏ وتصنع الأعاجيب مع سكان برج الحمام الذي يرتفع معدل هديله ومع
أسراب البط النازلة للترعة

حيث تتوقف كل بطة تدغدغ إبطها بمنقارها
قبل نزلوها لأخذ حمامها في الميه‏..‏ لكن أحدا من الضيوف لا يصحب الصدي
ولا يخرج للغيطان ولا يكترث بركوب الحمار علي شط الترعة‏,‏ ولا يأخذ لقطة
فولكلورية للساقية وبهيمة تدور بنظارة قفف‏,‏ ولا بالفرجة علي دائرة صبايا
تصفق لكل واحدة بالدور لترقص علي لحن آهي ليلة يا جميل‏..‏ آهي ليلة
والسلام‏..‏ ضيوف الباشا من شم النسيم قبل اللي فات من ساعة إنفلونزا
الطيور‏,‏ ويمكن قبلها من أيام جنون البقر‏,‏ بطلوا يخرجوا من باب السراي
تخوفا من مواطن العدوي‏!..‏ وانقطع أمل أولاد الحمير في تنمية مواردهم‏,‏
وكانت أمهات وخالات الجيرة وحدهن من أجيز لهن اختراق أسوار الجنة بصك من
رضوان‏,‏ فجواز المرور كان مشنات المشلتت وروائح الزفر وطواجن الأرز
المعمر والعيش المرحرح الطالع لتوه من فرن الخبيز‏..‏ الولد ترك الحمار
متسللا في ذيول الخالات إلي داخل الأسوار‏..‏ يا همي الجنينة غير الغيط يا
أمي‏..‏ الخضرة دواير ومربعات والوردة قد راس العيل‏,‏ والرخام شاهق
البياض منحوت مساطب تحت الشجر‏,‏ والخلق يا أمه سارحين كما المهابيل
يتقابلوا ساعة يضحكوا ويسألوا بعضهم إزنتت؟‏,‏ وساعة يتفرقوا كل واحد
وواحدة لسكة بعيد وراء الشجر البعيد‏..‏

من طرف ميمو السبت مايو 02, 2009 9:51 am

الهواء يا أماي ريحته لحمة
مشوية‏..‏ فاكرها يوم خالي أمين ما دبح عجل كان ندره لما كسب من جماعة
الغرباوي القضية‏..‏ الكل يلهط ولا يشبع ويرجع يغرف من جديد كأنه آخر
زاد‏..‏ و‏..‏ ترابيزة متصدرة عامرة بالشواء وبكل ما لذ وطاب من فواتح
شهية شم النسيم يسارعون لها بالإمدادات العاجلة ما أن تزيل أصابع النعمة
طابقا من اللحم المجاور للعضم‏,‏ أو الملبس في أسياخ الشيش طاووق‏,‏ أو من
هبر الخراف المشوية الدائرة تلف في الأركان يشرف عليها طباخون قيمة وسيمة
علي رؤوسهم الطراطير‏..‏ الترابيزة يجلس حولها باقة من أصحاب السلطة سابقا
كل واحد منهم كان مسئولا وبقي مش مسئول‏,‏ وقعد له مدة في كشوف الانتظار
متوقعا أدوارا أخري قادمة بمشيئة الله تخرجه بالسلامة من الظل للنور‏,‏
لكن يطول الانتظار ويعم الزهق من بعد السكر وتصلب الشرايين وتبدأ في
الظهور مواكب الاكتئاب فينتقل البعض لصفوف المعارضة‏,‏ والبعض ينتقل
لخالقه‏,‏ والبقية تؤثر المكوث تحت الأضواء بتلبية جميع الدعوات‏..‏ ويميل
عليك السابق يقول لك إيه آخر الأخبار؟ واحنا رايحين فين؟‏!!..‏ ترد عليه
تقول له إيه‏,‏ غير ما قالته الست ليلي مراد‏:‏ رايحين ع البلد اللي تجمع
شمل العشاق‏,‏ نفرح ونغني ونودع كل الأشواق‏.‏

في الظهر خمدت
المزيكا وتوقف الالتهام وتخشبت الأقدام وتخدرت الجفون بفعل المعدة
الممتلئة وما شرب من سوائل بعضها برئ وبعضها سبح فوق صخور الثلج‏..‏
الحلوة فوق العشب وسنانة نامت ومكانس رموشها تغطي صواني الخد‏,‏ وفوق
تفاحة صدرها حطت فراشة وما بين التفاحة والسرة حطت فراشة أخري‏..‏ صاحبها
ثقلت جفونه ونسمة طرية قضت علي آخر مقاومة ضد الاستسلام للسبات العميق‏..‏
عن بعد انفلت العيل الزنان الممقوت من حجر الشابة النظيفة التي ترتدي
الهدوم البيضاء المخصصة لرعايته كما الملاك الحارس‏..‏ نزل يحبو وحده فوق
النجيل كما الضفدعة ويضع في فمه كل ما يقابله حيا أو ميتا‏..‏ عينها لم
تكن تتابعه في مهمة تأكل منها عيشها بعد أن حجبه عنها جسد سائق العربة
الهامر المتكئ بذراعه إلي الحائط هامسا في أذنها دفقات من الغزل الخشن من
خلال دخان سيجارة غليظة ظل يلفها بعناية طويلا خلف الشجر‏,‏ وكان قد أعطي
مثيلتها لواحد من البهاوات ربت علي كتفه ممتنا شاكرا شاطر شاطر عندما
قدمها له هدية متواضعة من الفرفور للسيد الذي غمز الأسطي الشاطر برقم
تليفونه السري‏.‏

سكون‏..‏ العالم في حذر‏..‏ من مخبئه زحف الولد
وأمسك بزجاجة كانت الحلوة تضعها علي فمها وتشرب‏,‏ لكنها لم تشربها
كلها‏..‏ من هنا نهل من شهد العسل‏..‏ ياه‏..‏ طعمها علقم مثل دواء
الديدان الذي أتت له به أمه من مستوصف المركز‏..‏ من جيب السيالة كبش
حبايتين توت ازدردهما لكسر حدة المرارة‏...‏ كتم ضحكة كادت تنفلت هادرة من
صدره لأن حماره دخل الساحة هناك للبحث عنه‏..‏ الحيوان يدور بين الأجساد
الخامدة‏..‏ أحد الضيوف مازال مستيقظا نظر في وجه الحمار المقترب من وجهه
ببلادة ثم استدار بعد أن وضع طرطورا علي رأس الحمار‏..‏ الممقوت توقف عن
الحبو ليتقاسم مع الحمار قشرة برتقال‏,‏ وعندما جار الأخير علي نصيبه حاول
انتزاعه بأصابعه الدودية من بين ضب الأسنان فنفر الحمار في وجهه فظنه
يداعبه‏,‏ وأراد مداعبة جديدة تخرج له نفرة أخري‏,‏ لكن الحمار زهق ومضي
يعبر في طريقه الكلب اللولو الصغير الذي ازداد انكماشا وراح يدفس بوزه في
إبط صاحبته العجوز المبرقشة بالنمش النائمة كمومياء وقد سقط علي عصعوص
كتفها طاقم أسنان فكها العلوي‏..‏ اقترب الحمار‏..‏ يخرب بيتك‏..‏ شي‏..‏
غور بعيد وإوعاك تصحيها‏..‏ حمار‏..‏ تشمم الحلوة بمنخاره فطارت الفراشات
وبقي التفاح خارج القفص‏,‏

وعندما اقترب من صاحبها وصعد برجليه
الأمامية بحمورية فوق صدره‏,‏ ولأن الثقل كله كان في الخلف عند الذيل لذا
لم يكن رد فعل الرجل سوي ان مد يده يدعك بها صدره الذي كبست عليه الحموضة
مرة واحدة وهو نايم‏,‏ وذهب الحمار ليلعق ما في أحد الأكواب من سائل أصفر
ثم سحب ورقة خس وتمدد يلوكها في بقعة ظل‏,‏ وبعدها انقلب علي ظهره منتشيا
يلعب بأقدامه عابثا في الفضاء‏,‏ وتطلع في مخه الحميري يتمرغ علي أرض
براح‏..‏ الولد أتي علي ما في الزجاجة‏..‏ حماره أكثر منه جرأة وإقداما
فقد قام ليقترب أكثر من الحلوة‏..‏ يا بخته ابن الحصاوي النازل فيها شم‏,‏
بل لقد وضع منخاره ما بين هلاهيل سروالها‏..‏ ليست هناك شقوق في
كعبيها‏..‏ تمشي علي الحرير ولا تسير حافية‏..‏ في أظافرها طلاء لامع
أحمر‏..‏ هل تستطيع أصابع الزبدة أن تدعك ماجور العجين وتقرص الجلة وترحرح
الأرغفة وتفرط الكيزان وتدب الذراع بطوله في فوهة فرن ناره جهنم‏,‏ وتحلب
في ظلام الزريبة ضرع الجاموسة‏,‏ وتبرك علي دكر البط تزغطه العيش
البايت‏,‏ وتغسل غسيلها والمواعين علي شط الترعة‏,‏ وتهيل الطين سدا يحول
مسار المسقاة لراس غيط سيد الأرض والمال والناحية‏..‏ في الدار ترك أمه
تكبر في اليوم الواحد عشرين سنة وأكثر‏..‏ تنام فوق الحصير تلقم ثديها
الأعجف لمولودها الجديد‏..‏

يخبطها الرضيع بكفه الهزيل برتابة تخفت
تدريجيا كأنه قبل ما ينقضي يعاتبها لجفافها‏..‏ غلبانة يا أماي وشقيانة
وهفتانة ومنكسرة وسمعك راح تعالي هنا وشوفي وانعي حالك ومصمصي بالشفاه
وكلمي المولي‏..‏

صاحبة العيون في خضرة فدان برسيم لم تزل
نائمة‏..‏ في الجو زقزقة عصافير‏,‏ وأجنحة فراشات بجميع الألوان‏,‏ وحبوب
لقاح طايرة‏,‏ونداءات فصائل طالبة الوصال‏,‏ وشمس وزرع وورد وخيمة سماء
زرقاء‏,‏ وفوق الشفايف زغب أبيض كمثل ما يكسو بطن فرخ كتكوت ناعم
الملمس‏..‏ طال التحليق والتحديق وتأمل الإعجاب والحسرة‏,‏ وكان لوقع
نظراته ما حرك الرموش المتعانقة‏..‏ استيقظت‏..‏ تثاءبت‏..‏ تمطت‏..‏
أفاقت الدهشة‏..‏ تراجع‏..‏ تقهقر متوجسا‏..‏ انفلت‏..‏ سلخ غصنا شذ به
ليصنع منه عصا يلهو بها في التراب في انتظار اليائس‏..‏ وأتي الفرج‏..‏
هلت صاحبة المنديل بحجم الكف حول رقبتها وهلاهيل سروالها الأحمر تطير
ثعابين لاهية مع مداعبات الهواء‏..‏ في صحبتها رفيقها ورجل آخر من
الشلة‏..‏ خلفهم قاد الحمار‏..‏ أن تلتفت نحوه غايته وأمله‏..‏ تتذكر السر
وغمزة العين والموعد ابتهال سره وعلنه‏..‏ لكنها ساهية وناسية ولاهية ولا
تكترث لأحد‏..‏ تثب مثل جدي صغير شقي تؤرجحه الحماقة‏..‏ ترقص خلف
فراشة‏.‏ تلاحق صرصار غيط‏..‏ تتأوه من وخزة غصن‏..‏ تحتضن خيال مآتة‏..‏
تلامس خلية النحل بتهور‏..‏ تفتح لوزة القطن عنوة‏..‏ تخمش الأرض تنزع من
المدفون درنة‏..‏ تهرول ثم تتثني وتقف ثم تمشي وتعدو تسابق الريح وتأتي
تتهادي من بعيد‏..‏ تتصرف كأنها وحيدة الكون‏..‏ لا رفيقها ولا الآخر ولا
الولد ولا حماره لهم في إطارها مكانة‏..‏ الشجر ظل والهواء عطر والطراوة
مراوح الجنة‏..‏ تستسلم لعبث الريح‏..‏ تجرأت نسمة داعبت ما تحت منبت
الخصلات وفكت ربطة المنديل وكشفت عن العنق المشرع‏..‏ المنديل طار علي
العشب كحيوان أطلق سراحه بعد طول أسر يفعل ما يخطر وما لا يخطر علي
بال‏..‏ صاحباها منهمكان في حديث بعيد وحدهما‏..‏ انقض الولد‏..‏ اصطاد
المنديل يعيده إليها‏..‏ منديل الحلوة يا أمي ملمسه علي كفي حرير‏..‏
مزهزهة ألوانه كتفاريح عيد‏..‏ يا كبدي يا اماي علي منديلك رفعاه علي رأسك
راية سواد حزينة علي اللي راح واللي لسه ماراحشي‏..‏ الحلوة أم الأصابع
الحلوة المغمسة بلون الورد قرصت خده بحنان‏..‏ تعالي يا اماي شوفي الهنا
اللي ابنك فيه‏..‏ تعالي يا قعيدة الدار شمي النسيم والهواء‏..‏ الحلوة
عادت تسأله إزنتت؟ ويفهمها وسيدي المتولي فهمها‏..‏ بتقول له إنها ستعتلي
حماره وتترك له اللجام يسحبها منه كما يشاء له الهوي‏..‏ سأمضي بك يا ست
الحسن والجمال في سكة لا تنتهي‏..‏ عبر حقول لا تنتهي‏..‏ بجوار خط أشجار
لا ينتهي‏..‏ يواكبنا مسار نهر لا ينتهي‏..‏ آخذك معايا لبلد تشيلنا وبلد
يحطنا‏..‏ نتوه‏..‏ نضيع‏..‏ يهاجمنا الليل والغول وأبو رجل مسلوخة والرجل
الأخضر ويلاحقنا الخولي بعصاته ورشاشه‏..‏ يطلع لنا بسم الله الرحمن
الرحيم وجنية البحر‏..‏ نموت من الخوف نحضن بعضنا إذا ما الذئب عوي‏..‏
أكبر في لحظة أبقي جدع يغطي شاربي وجهي وصدري ينزرع غابة شعر‏,‏ وأدق
الوشم فوق عضلاتي برسوم سبع البرمبة والزناتي ونمر الضواري‏..‏ ينقلب
حمارنا بقدرة قادر حصانا آخدك علي ظهره من خلفي نسابق الريح‏..‏ ينبت
للحصان جناحان يطير علي بساط الريح‏..‏ تسبح بنا سحابة في أمواج بحور
السما‏,‏ والشمس تغزل ضفايرها الدهب مع ضفايرك‏..‏ و‏..‏

الولد
متوجسا يلتفت للخلف خايف علي حلمه‏..‏ أحد الرجلين تباطأ وتعلق بغصن شجرة
ليرتفع بجسمه يتأرجح لاهيا‏..‏ أقبل الآخر نحوها زاجرا الولد‏..‏ خاف
الولد‏..‏ وقف علي البعد يرقب الحلوة وسارقها الذي مشت معه بمزاجها مخيرة
وليست مسيرة‏..‏ أخذها بكامل رضاها ليختفيا خلف الشجر‏,‏ ولم تعد هي ولا
اللص في مرمي البصر‏..‏ و‏..‏ تعالي يا امه شوفي ضنا حالي وشوفي الحلوة
اللي ما عادتش حلوة‏..‏

مشي الولد‏..‏ ابتعد‏..‏ ومكان ما نامت
لقاه‏..‏ تليفونها الصغير في حجم عقلة الصباع‏..‏ مضي يملس علي المسخوط
الناعم ويتحسس الشاشة ينقر عليها بأظافره ويمر بكفه فوق الأرقام‏..‏ وضعه
تحت طاقتي أنفه يتشممه‏..‏ ريحة نفسها‏..‏ دسه في جيبه وبعد ثانية أخرجه
ورجع تاني يتأمله‏..‏ صرخ في يده بمزيكا طالت وسكتت لكنها عادت من جديد
ترشد القادمين نحوه من بعيد‏..‏ رمي لهم عقلة الصباع بطول ذراعه علي الأرض
ومضي يسابق الريح‏,‏ ومن خلفه حماره هارعا مبرطعا لجاموسة طالبة الونس
قاعدة في الزريبة وحدها‏!‏

‏selbssi@ahram.org.eg

نسيم‏..‏ الناس الحلوين بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

نسيم‏..‏ الناس الحلوين بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

رد: نسيم‏..‏ الناس الحلوين بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي