اللغـز‏!‏ بقلم : د‏.‏ فوزي فهمي

من طرف karem الإثنين مايو 04, 2009 12:06 pm

اللغـز‏!‏
بقلم : د‏.‏ فوزي فهمي

كان‏'‏
موسو‏',‏ الكاهن من طائفة‏'‏ زن‏'‏ البوذية‏,‏ يمارس سياحته بشرطه الذاتي
في مقاطعة‏'‏ مينو‏'‏ باليابان‏,‏ وفجأة أحس أنه ضل طريقه في ناحية
جبلية‏,‏ ولم يجد حوله من يستجلي منه موقعه‏,‏ فراح يسير قاصرا عن معرفة
وجهته‏,‏ وداهمه اليأس من العثور علي مأوي يقضي فيه ليلته‏,‏ ثم انفتح
أمامه أفق الأمل حين لمح صومعة علي قمة جبل‏,‏ قد أضاءها آخر خيط من خيوط
أشعة الشمس الغازية‏.‏

بدت الصومعة متصدعة من آثار إملاءات
الزمن‏,‏ لكن الأمر بالنسبة إلي الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ لم يكن يتصل بممارسة أي
خيار بل كان يقتضي الانصياع دون حذر‏,‏ والمكابدة علي عجل في حث الخطي إلي
الصومعة مسرعا‏,‏ بوصفها مأوي‏,‏ وموطئ معرفة لفك التباس التيه الذي وقع
في براثنه‏.‏ عندما ولج الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ إلي الصومعة‏,‏ وجد كاهنا مسنا
مقيما بها‏,‏ فالتمس منه أن يسمح له بالمبيت في الصومعة لليلته‏,‏ لكن
الكاهن المسن رفض في خشونة وجفاء‏,‏ ويبدو أن الرفض تجلي في لهجة لاتخلو
من إيحاء دلالي لافت‏,‏ تمثل في فرض عدول الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ عن أن يتساءل
عن أسباب الرفض لمبيته‏,‏ وذلك مايعني أن يتواري الواقع من أمام‏'‏
موسو‏',‏ ليتحول إلي لغز هارب‏,‏ لايواجه بأي تساؤل‏,‏ لذا فقد استتبع
الكاهن المسن رفضه‏,‏ باستعادة الأمل في بديل آخر‏,‏ يزيل توتر الكاهن‏'‏
موسو‏',‏ ويبدد يأسه‏,‏ ويصادر لديه أي معقبات تستهدف فهم الواقع الهارب
بطرح أي أسئلة‏,‏ وذلك بأن أرشد‏'‏ موسو‏'‏ إلي قرية قريبة في الوادي
المجاور‏,‏ أكد له أنه سيجد فيها المأوي والمأكل‏.‏ نري أهو رهان فخ
وإغواء‏,‏ أم رهائن إزاحة وانفصال؟

وكيف يستقيم أي من الرهانين بين
رجلين متحدين في عقيدتهما الدينية‏,‏ بل بين كاهنين يقود سلوكهما جوهرها
الذي يحث علي الاستنارة‏,‏ ويستنهض صحوة العقل لطرح التساؤلات للتدبير
والفهم؟ غادر الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ الصومعة‏,‏ بوصفها واقعا يقينيا‏,‏ واتجه
إلي القرية التي طرحها عليه الكاهن المسن‏,‏ بديلا افتراضيا وحيدا ونهائيا
عن المبيت في الصومعة‏,‏ وذلك من دون الإحالة منه إلي سبب رفضه‏.‏ ولاشك
أنه عندما يغيب طرح السبب‏,‏ فذاك يشي أن هناك ما يخشي افتضاحه‏,‏ أو
مايجري الحرص علي كتمانه‏.‏ إن عميد القرية التي تتكون من اثني عشر
كوخا‏,‏ قد أحسن استقبال الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ في بيته‏,‏ حيث كان في ضيافته
بحجرة الاستقبال عدد من الرجال بلغ خمسين رجلا‏,‏ ومع ذلك احتفي به‏,‏
وأنزله في حجرة منعزلة‏,‏ ومجهزة بالفراش والطعام‏.‏ ولأن الكاهن‏'‏
موسو‏'‏ كان متعبا فقد نام مبكرا‏,‏ تاركا وراءه اللغز المجسد في الكاهن
المسن وصومعته‏,‏ الذي لم يسمح لمثيله الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ أن يقتحم معاقل
مجهول لغزه بالسؤال‏.‏

أيقظ الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ قبيل منتصف الليل
عويل في الحجرة المجاورة‏,‏ ثم دخل إلي حجرته شاب بادر بتحيته‏,‏ مقدما‏,‏
نفسه بوصفه كان حتي أمس الابن الأكبر لأسرته‏,‏ ثم أصبح اليوم سيد الدار
بعد وفاة والده الذي مات قبل مجيء الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ بساعات قليلة‏,‏ وقد
أخفت الأسرة عن الكاهن خبر وفاته‏.‏ استتبع الشاب حديثه بشرح لخلفية مشهد
الرجال الخمسين الذين شاهدهم الكاهن عند وصوله‏,‏ بأنهم سكان القرية‏,‏
وأنهم حضروا ـ وفقا للموروث ـ لوداع الراحل‏,‏ وهم حاليا يستكملون
الإجراءات التي ترسم حدود الفصل بينهم وبين الميت‏,‏ إذ يغادرون الآن إلي
قرية أخري عبر مسيرة ثلاثة أميال‏,‏ وفقا لما يقتضي به الموروث المتبع‏,‏
بألا يبقي في القرية أحد في أثناء الليلة التالية لوفاة أحد سكانها‏,‏ حيث
ينصرف الجميع مغادرين القرية‏,‏ تاركين الجثة وحدها‏.‏ نبه الشاب مشددا
ومحذرا من أنه تحدث في المنزل الذي تترك به الجثة أشياء غريبة غامضة‏,‏
لذا فقد اقترح علي الكاهن أن ينصرف معهم‏,‏ مؤكدا أنهم سوف يجدون له منزلا
مناسبا في القرية الثانية‏,‏ لكن الشاب عاد مستدركا مؤكدا أن العائلة ترحب
بوجود الكاهن بالمنزل‏,

‏ إذا كان لا يخشي من بقائه وحيدا مع
الجثة‏,‏ مبطنا دفعه الكاهن إلي البقاء بتعليل أن إمكانية بقائه تستند إلي
أنه ربما ليس علي الكاهن من محاذير تتأسس علي الخوف من الشياطين والأرواح
الشريرة‏,‏ بل إن الشاب أنهي حديثه إلي الكاهن بحكم إدراك‏,‏ مفاده أنه
لايجرؤ علي البقاء إلا أحد الكهنة‏.‏ واجه الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ الموقف بكل
مايتطلبه من إمعان واحترام‏,‏ مصارحا الشاب رب الدار‏,‏ بأنه سيصلي علي
الراحل بعد انصرافهم‏,‏ إذ إنه سيبقي إلي جانب الجثة منفردا حتي الصباح في
انتظار عودتهم‏.‏ أقبل سائر أعضاء الأسرة‏,‏ وسكان القرية إلي الكاهن
يشكرونه‏,‏ ويعتذرون عن مغادرتهم‏,‏ وتركه وحيدا‏,‏ وعدم استطاعتهم دفع أي
أذي عنه لغيابهم عن القرية‏,‏ تجنبا لتبعات مخالفة الموروث‏.‏ صحيح أن
الموقف قد كشف عن أن المسكوت عنه أكثر إفصاحا من المصرح به‏,‏ لكن الصحيح
أيضا أن قرار بقاء الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ إلي جانب الجثة منفردا‏,‏ يعد
بالنسبة إلي أهل القرية انعطافا حادايؤشر إلي إمكانية الخروج من أسر
العلاقة مع الاعتياد المغلق المكرور‏,‏ بل مدعاة إلي الكف عن الاعتقاد في
موروث يخرج نفسه من دائرة أي تفسير أو تساؤل‏

‏ ويحمل بيانا قاطعا هو إقصاء الناس عن بيوتهم‏,‏

لكن
ثمة معني جوهريا في قرار الكاهن يطرح دعوة أهل القرية إلي مشاركته
البقاء‏,‏ ومجاورته تضامنا‏,‏ بدلا من المغادرة‏,‏ استهدافا إلي الاستنارة
والمعرفة لما يدور‏,‏ لكن يبدو أن جماعة أنصار ضخ الماضي المستغلق المكرور
في الحاضر‏,‏ قد أجهضت محاولة البعض في المشاركة والتضامن مع الكاهن
بالبقاء‏,‏ وفرضت نموذج تفكيرها‏,‏ وقادت الجميع إلي المغادرة‏.‏

بعد
أن أصبحت القرية مهجورة من أهلها‏,‏ قام الكاهن وحيدا بالصلاة علي
الميت‏,‏ ثم استغرق في التفكير والتأمل لساعات‏,‏ وعندما بلغ الليل أقصي
مداه‏,‏ دخل في غير ضجة إلي الحجرة شبح ضخم الهامة‏,‏ غامض الشأن‏,‏ أحس
الكاهن أنه لايقوي علي الحركة أو الكلام‏,‏ فراح يراقب الشبح‏,‏ حيث رآه
يرفع الجثة بيديه والتهمها التهاما‏,‏ ولم يدع منها شيئا‏,‏ وتحول إلي
القرابين فازدردها كلها‏,‏ ثم ذهب في خفاء وغموض‏.‏ عاد أهل القرية في
الصباح‏,‏ وفي حسبانهم أولوية الاطمئنان علي الكاهن‏,‏ والكشف عن الأذي
وأخطار بقائه بالمخالفة للأعراف المتوارثة‏,‏ فتبدي أمامهم الرجل معافي
سليما‏,‏ ولما لم يجدوا الجثة فإنهم لم يظهروا لادهشة ولاتعجبا
لاختفائها‏,‏ وعندما حدثهم الكاهن عن الشبح الخفي الرهيب الذي التهم الجثة
والقرابين‏,‏ أكدوا له أن حديثه يطابق ما كان يتردد من قديم الزمان‏.‏ تري
هل يعني ذلك أن هذا الحديث سيستمر يتردد‏,‏ والناس يمعنون في الإصغاء
والخضوع‏,‏ ويستجيبون لدوام ضرورة الرحيل عن بيوتهم‏,‏ واضعين علي أعينهم
ما يحجب عنها طريق الخلاص دون صحوة العقل تجاه مايدور؟

سأل‏'‏
موسو‏'‏ مستفسرا عن الكاهن المسن المقيم عند التل في صومعته‏,‏ الذي رفض
أن يؤويه‏,‏ وأرشده إلي القرية‏,‏ هل يقوم بين الحين والآخر بالصلاة علي
موتي القرية؟ تبادل الجميع النظرات ذاهلين متعجبين‏,‏ ثم كانت الإجابة أنه
لا ليس علي التل صومعة ولاكاهن‏,‏ بل إنه منذ أزمنة خلت لم يحل بالقرية
كاهن من الكهان‏.‏ ثمة إذن غياب للوعي بالدين‏,‏ وغياب لرجال الدين
المتنورين الذين يعمقون الوعي بالكيفية التي يمارس بها يوميا الإيمان
الحقيقي بالدين‏.‏ أتراهم في ظل هذا الغياب اختزلوا الوجود في محض إشباعات
لمطامع ونزوات؟ تري هل ماشاهده الكاهن‏'‏ موسو‏'‏ من التهام الشبح لجثة
الميت عقوبة استحقاق علي سكان القرية؟ ولأنهم يؤكدون إنكارهم لوجود الكاهن
المسن وصومعته‏,‏ وقد يعزون ذلك بأنه قد غرر‏'‏ بموسو‏'‏ نفر من الجن
وخدعوه‏,‏ لذا اتجه‏'‏ موسو‏'‏ إلي الصومعة‏,‏ فاستقبله الكاهن المسن
خاشعا خجلا من أنه قد أبصره علي صورته الحقيقية‏,‏ معترفا له بأنه هو نفسه
الشبح الذي التهم الجثة والقرابين أمامه ليلة أمس‏,‏ وأن تلك عقوبة نتيجة
خطيئة‏,‏ إذ كان قبل موته يصلي علي الموتي‏,

‏ ويجري الطقوس‏,‏
لكنه لم يكن يؤدي عمله الديني بإخلاص أو نية صافية‏,‏ بل كان يفكر في
المآرب‏,‏ وما يمكن أن يدره عليه الاتجار بالدين من إشباع لنزوات‏,‏

ومن
ثروة وسلطان ودعة حياة‏,‏ لكنه بعد موته أعيد إلي الحياة في صورة آكل لحوم
البشر لعنة وعقابا‏.‏ وفجأة اختفي‏,‏ وغابت معالم الصومعة‏,‏ ووجد‏'‏
موسو‏'‏ نفسه راكعا وحده فوق هضبة إلي جانب قبر قديم علته النباتات‏.‏ لقد
جسد الكاتب البريطاني‏'‏ سومر ست موم‏',‏ في قصته‏'‏ القبر‏',‏ مسار سياحة
الكاهن‏'‏ موسو‏',‏ في مسالكها بوصفها استيهاما‏,‏ أو سياحة افتراضية
قصدية‏,‏ تقوض مسافات التخوم‏,‏ وتعزز التباس وجوده في ألم افتراضي ليدرك
نماذج من أخطاء ممارسات البشر‏,‏ إذ عليه أن يتجنب عطالة صحوة العقل عن
إدراك الأخطاء‏,‏ ويرفض الاستسلام لاستمراء العيش بلا إيمان‏,‏ وألا يفتقد
إمكان طرح السؤال‏,‏ وأن يتصدي لضخ موروث الماضي في الحاضر كيلا يموت‏,‏
بأن يفهم أمر وجود الموروث وأمر معناه‏,‏ ويحرص علي ألا يتواري الواقع
ويتحول إلي لغز هارب‏,‏ وأن يشحذ الوعي للمواجهة عندما يصبح الدين محض
تجارة بالتضليل‏,‏ إذ يغدو المتاجرون بالدين هم آكلي لحوم البشر‏,‏
وطعامهم لحم البشر الذين يستمرئون العيش بلا إيمان ودون سؤال عن المصير‏.‏