من جهل شـيئا عـاداه‏(3)‏ ‏بقلم : جابر عصفور

من طرف lzeem الإثنين مايو 04, 2009 12:09 pm

من جهل شـيئا عـاداه‏(3)‏
‏بقلم : جابر عصفور
‏‏

وأضيف
إلي كل ما ذكرته عن دانيل بيرنبويم أنه لم يعد يقيم في إسرائيل منذ سنوات
غير قليلة‏,‏ وأنه رفض أن تكون له أي صلة بالاحتفال الأوركسترالي بمناسبة
الذكري الخمسين لإنشاء دولة إسرائيل‏,‏ ذلك لأنه لا يزال يعارض بشدة
احتلال الضفة الغربية‏,‏ ولا يزال يتحدث علنا عن دولة فلسطينية‏,‏ ولقد
وصلت إدانته لدولة إسرائيل إلي ذروتها في العدوان الوحشي الأخير علي
غزة‏,‏ ومن المفارقات الدالة أنه قدم عزفا منفردا علي البيانو‏,‏ في جامعة
بيرزيت‏,‏ في القاعة التي تحمل اسم كمال ناصر ابن عم رئيس الجامعة‏,‏ أعني
القيادي الفلسطيني الذي اغتاله الإسرائيليون في بيته‏,‏ ووسط أسرته‏,‏ في
مدينة بيروت سنة‏1973‏ وكان كمال ناصر من القيادات المحيطة بأبي عمار
وموضع ثقته‏,‏ أما عملية اغتياله فكان يقودها إيهود باراك ضابط
الاستخبارات الذي أصبح زعيم حزب العمل فيما بعد‏,‏ ووزير جيش الدفاع الذي
لم يتوقف عن القتل الوحشي لرجال غزة وأطفالها ونسائها‏,‏ رغم احتجاج
العالم كله‏,‏ إلا بعد أن تم تدمير قطاع غزة بالكامل‏,‏ وترك ساكنيه في
العراء‏,‏ يعانون البرد القارس والموت البطيء وقد تحدث إدوارد سعيد‏,‏ في
أحد حواراته الصحفية‏,‏ عن مواقف بيرنبويم وعن الصداقة

التي تصل
بينهما‏,‏ ضمن كتابه الثقافة والمقاومة الذي نشر المركز القومي للترجمة
ترجمته بالاشتراك مع دار الآداب في بيروت وقد سبق ذلك نشر ترجمة الحوارات
الرائعة بينهما‏,‏ وتدور حول التاريخ والسياسة والثقافة والموسيقي وقد
صدرت هذه الحوارات بالإنجليزية أولا‏,‏ بعنوان نظائر ومفارقات‏:‏
استكشافات في الموسيقي والمجتمع وقد قام بتحريرها وتقديمها آرا
جوزيليميان‏,‏ وهو أمريكي من أصل أرمني وقد ولد في القاهرة‏,‏ وعاش
بداياته مع أسرته بها‏,‏ وتلقي فيها دروس البيانو الأولي‏,‏ ولم يكن يتوقف
عن الذهاب مع أسرته إلي دار الأوبرا المصرية القديمة‏,‏ وهو يشبه إدوارد
سعيد في النشأة‏,‏ حيث تعلم سعيد دروسه الأولي في البيانو في القاهرة‏,‏
وتعود أن يذهب إلي دار الأوبرا مع أسرته‏,‏ وذلك قبل أن يغادر القاهرة
ليكمل الدراسة في الولايات المتحدة‏,‏ حيث واصل دراسة الموسيقي‏,‏ وكاد
يتخصص فيها‏,‏ ولكن جذبته الدراسات الأدبية التي لم تعقه عن مواصلة العزف
علي آلة البيانو‏,‏

ومتابعة دراساته النقدية للموسيقي وقد تولي
دانيل بيرنبويم تعريف إدوارد سعيد بصديقه آراجوزيليميان الذي كان يعمل
مديرا عاما ومستشارا فنيا لقاعة كارنيجي خلال‏1998,‏ والمدير الفني لمهرج

ان
آسبن الموسيقي‏,‏ وأوركسترا لوس أنجلس الفيلهارموني وكان يستضيف في قاعة
كارنيجي الشهيرة سلسلة من الحوارات مع أعلام الموسيقي وكان يعرف بارنبويم
الذي حدثه عن إدوارد سعيد وعرفه به فيما بعد‏,‏ فكانت النتيجة أن قدمهما
معا‏,‏ بوصفهما متحاورين‏,‏ في سلسلة الحوارات التي كان يعدها ويشرف
عليها‏,‏ وقد حدث الحوار الأول‏,‏ بين سعيد وبيرنبويم‏,‏ في مسرح ميللر
بجامعة كولومبيا التي كان يعمل بها إدوارد سعيد في أكتوبر‏1995,‏ وكان
الثاني علي خشبة مسرح كارنيجي‏,‏ أثناء استراحة بين سلسلة من حفلات فرقة
شيكاجو السيمفونية بقيادة دانيل بيرنبويم‏,‏ وكان آخرها في مدينة فايمار
في أغسطس‏1999‏ وكان الهدف المتكرر من هذه اللقاءات والحوارات هو تأكيد أن
كلا الاثنين‏,‏ إدوارد سعيد ودانيل بيرنبويم‏,‏ يتشاركان في أفكار
عديدة‏,‏ تدور كلها حول أن الموسيقي والثقافة والسياسة تشكل كلا
متكاملا‏,‏ وأن هذا الكل هو ما يجمع بين ناقد كبير‏,‏ وصل إلي مرتبة
العالمية‏,‏ ولكنه ظل مؤمنا أن الموسيقي تساعده علي فهم الأعمال الأدبية
بشكل أفضل‏,‏ خصوصا أنه لم ينس عشقه القديم للموسيقي‏,‏ وظل عازف بيانو
جادا طوال حياته‏,‏ وموسيقارا عالميا وقائد أوركسترا‏,‏ قادرا علي

تقديم
تأويلات جديدة للأعمال الموسيقية الكلاسيكية‏,‏ وذلك علي نحو يبدو معه‏,‏
كما لو كان الوجه الآخر لإدوارد سعيد‏,‏ لكن مع الاختلاف الفكري خصوصا
فيما يتصل بالذاكرة الوطنية التي ظلت عنصرا أساسيا في وعي إدوارد سعيد
الذي لم ينس أنه ينتسب إلي وطن مغتصب‏,‏ وذلك في المدي الذي لا يرفض
الحوار أو إنكار خصوصيته التي هي الوجه الآخر من الهوية الفلسطينية التي
يحترمها بيرنبويم‏,‏ ويقدرها‏,‏ ويدعو إلي أن تكون لها كيان مستقل‏,‏ في
موازاة الكيان الإسرائيلي الذي لم يتوقف عن إدانته‏,‏ خصوصا في معاملته
لأصحاب الأرض الأصليين وهو الأمر الذي أتاح لكل من سعيد وبيرنبويم تكوين
صداقة إنسانية‏,‏ تعبر الانقسام‏,‏ والخلاف الديني والقومي‏,‏ كي تصل
النظائر عبر المفارقات‏,‏ وقد أحسن جوزيليميان تحرير المحاورات‏,‏ فحذف
المكرر والنوافل وأحكم صياغتها إلي أن خرجت بالصورة التي رضي عنها
المتحاوران‏,‏ فصدرت سنة‏2002‏ وكان إدوارد سعيد قد دخل في ذلك الوقت
مرحلة العلاج من السرطان‏,‏ وذلك في سياق نشاطه الإنساني الداعي إلي
السلام العادل وهو الأمر الذي رأي أن الموسيقي يمكن أن تكون وسيلة
لتحقيقه‏,‏ فتعاون مع بيرنبويم في إنشاء أوركسترا الديوان الشرقي الغربي

الذي
كان أول نشاط له في فايمر التي كانت العاصمة الثقافية لأوروبا لسنة‏1999,‏
وكان هذا العام عام الاحتفال بالذكري المائتين وخمسين علي ميلاد أديب
ألمانيا الأشهر جوته بعد أن فكرا في استقدام عدد من الموسيقيين الموهوبين
إلي فايمر‏,‏ غالبيتهم من العرب‏,‏ مع عدد قليل من الإسرائيليين‏,‏ من
أعمار تتراوح بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين‏,‏ يقيمون معا حوالي
عشرة أيام‏,‏ وذلك في المدينة التي عرفت جوته شتراوس وفرانز ليست وفاجنر
وباخ الذين يمثلون ذري الثقافة الألمانية‏,‏ فضلا عن قربها من موقع معسكر
باخينفالد الذي استخدمته النازية لاستئصال اليهود‏,‏ ولم يكن الهدف من هذا
الاستقدام شيئا يتصل بالسياسة علي نحو مباشر‏,‏ وإنما الاهتمام بقدرة
الموسيقي والحوار والثقافة علي خلق الإحساس بالمساواة والندية والرفقة‏,‏
وهي الأمور التي تحول دونها مشاعر الغضب والتعصب ورغبة الثأر المتبادل
الذي يسمم نوازع السلام الحقيقي القائم علي العدل والمؤسس علي القيم
الإنسانية أولا وأخيرا ونجحت التجربة رغم بعض المشاكل التي واجهتها لكن
التي لم تقض علي رغبة الصديقين المتأصلة‏

,‏ سعيد وبارنبويم في
تأسيس حوار خلاق‏,‏ يمكن أن يكون عونا علي دعم رغبة السلام القائم علي
العدل بين كل الأطراف‏,‏ بعيدا عن التعصب وأشكال الإرهاب التي يظهرها
المتطرفون هنا وهناك‏,‏ مدمرين كل إمكان لسلام عادل وقد تكررت ورشة
فايمر‏,‏ محافظة علي أهدافها‏,‏ في ألمانيا وشيكاجو واللافت للانتباه أن
المتحاورين أهديا كتاب حواراتهما إلي الموسيقيين الشباب من ورشة عمل
أوركسترا الديوان الغربي الشرقي الذي قاده بيرنبويم‏.‏

هذا هو
الرجل الذي شرفنا أن يقود أوركسترا القاهرة السيمفوني في دار الأوبرا
المصرية‏,‏ فنحن نعرفه ولا نجهل قدره‏,‏ ونسعد بحضوره إلي بلدنا الذي لم
يتردد فاروق حسني في تحيته‏,‏ ومعه كل المثقفين الشرفاء الذين لن يقبلوا
بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل‏,‏ إلا بعد تحقق السلام العادل واكتمال وحدة
الدولة الفلسطينية المستقلة ولا نصف الذين هاجموه‏,‏ وهاجموا فاروق حسني
لدعوته‏,‏ إلا بما قاله أسلافنا في العصر العباسي من جهل شيئا عاداه‏.‏