الدين والمستقبل بقلم‏:‏د‏.‏ محمد نصار

من طرف لميس الإثنين مايو 04, 2009 1:12 pm

مفاهيم
الدين والمستقبل
بقلم‏:‏د‏.‏ محمد نصار
أستاذ الدراسات العليا ـ جامعة الأزهر
جامعة عين شمس

الدين والمستقبل بقلم‏:‏د‏.‏ محمد نصار 44708_9m

حتي
يعطي الحق سبحانه وتعالي الإنسان باعتباره الكائن المكلف الذي استأهل
خلافته في هذا الكون ـ القدر الكافي من الفاعلية له بهذا الاعتبار ـ أقام
الوجود الإنساني والكوني علي قانون الأسباب والمسببات ووضع له من الحوافز
والمرغبات‏,‏ مايشد عزمه نحو الطريق الأمثل‏,‏ الذي به تتحقق فاعليته في
هذا الكون‏,‏ فأرسل اليه الرسل‏,‏ عليهم الصلاة والسلام‏,‏ وأنزل معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‏,‏ وحذره من عواقب طريق الغواية‏,‏
وما يمكن أن يؤدي إليه من اختلال الوجود الانساني كله في الدنيا‏,‏ وما
ينتظره من حساب دقيق في الآخرة‏,‏ ولعمري ان هذا لهو العدل الإلهي
المطلق‏,‏ إذ القول بخلاف ذلك يعني أن الانسان يكون مسلوب الارادة
والاختيار‏,‏ وهما من أخص خصائصه ويكون مثله والحالة هذه كمثل الريشة في
مهب الريح‏,‏ وهذا في حد ذاته منح لطبيعة الانسان وهويته‏,‏ ورفض لرتبته
في الكون‏.‏

ان قدرة الحق سبحانه وتعالي مطلقة‏,‏ ومع هذا فقد أراد
سبحانه أن يجعل من الانسان قوة تحقق المعني السامي من وجودها وقد تأكد هذا
المعني بشكل أكثر وضوحا مع كتيبة المؤمنين بهذا الدين ـ الاسلام ـ وذلك في
صورة وعد إلهي لهؤلاء بأنهم متي آمنوا الايمان الصحيح‏,‏ المتغلغل في
أعماق وجدانهم ومشاعرهم‏,‏ والذي يملك عليهم أقطار أنفسهم‏,‏ والذي يقتضي
أعمالا صالحة تسعد بها حياتهم وحياة غيرهم بالخلافة في الأرض‏,‏ وتمكين
دينهم الذي ارتضي لهم بأن يكون هو السائد والقائد‏,‏ وفي نفس الوقت أظهر
الحق تبارك وتعالي لهم أن هذا الاستخلاف وذلك التمكين سنة الهية مطردة‏,‏
تظهر كلما ظهرت أسبابها من قبل الانسان نفسه‏,‏ وكأنه هو الذي استحقها‏,‏
حتي لايظن أنها منحة الهية لامبرر لها‏,‏ فإن الحق سبحانه جل عن أن يخاطب
أحدا دون استحقاق‏,‏ فهو الحكيم‏,‏

ومنطقة الفضل لديه سبحانه وإن
كانت أوسع من منطقة العدل إلا أنها تتحقق في إطار من الحكمة‏,‏ حتي لايطمع
أحد في غير مطمع‏,‏ فيقعده ذلك عن العمل الصالح‏,‏ الذي هو ضرورة لإعمار
الحياة بالخير‏,‏ قال سبحانه‏:‏ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشركون بي
شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏.(‏ سورة النور‏:‏ آية‏55).‏
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يلوح له من أول نظرة ما قلناه ونؤكده من
فاعلية دور الانسان المؤمن في هذا الوجود‏,‏ كما يظهر له أيضا أنه وعد
الله الذي لايخلف وعده‏,‏ وأنه ربط الماضي بالمستقبل عبر الحاضر‏,‏ ليقرر
أمام كل ذي بصر أن مستقبل هذا الدين ـ الإسلام ـ مرهون بارادتنا الخيرة
نحو هذا الدين‏,‏ تلك التي ينبغي أن تتجاوز عالم الأقوال إلي عالم الأفعال
والممارسات‏,‏ كما يدرك في نفس الوقت قدر المكاسب الهائلة التي تعود علي
البشرية في يوم الناس هذا‏,‏ بعد أن أفقدتها الحضارة المادية الهائلة
أشواقها الروحية ومطامحها الدينية‏,

‏ حين تأوي الي عالم الروح‏,‏
كاسرة الأغلال التي طوقت أعناقها من عالم المادة‏,‏ وهنا يتأكد ـ وبمنطق
الخسارة والربح ـ أن الرابح ـ وحده هو الانسان المؤمن‏,‏ الذي امتلأت
جنبات نفسه بنور الايمان الصحيح‏,‏ وأن الخاسر وحده هو الانسان حين تقعد
به شهواته ورغباته المادية وتخلد به الي الأرض وأما الحق سبحانه وتعالي
فلا تنفعه طاعة الطائعين‏,‏ ولا تضره معصية العاصين‏,‏ لأنه وحده هو
الغني‏,‏ وأما ما سواه وبخاصة الانسان فهو المفتقر اليه‏.‏

إن
المحاولات الدءوب التي ظهرت علي أيدي الدعاة والمصلحين في كل أحقاب
التاريخ الاسلامي ليجددوا بالاسلام منهج الحياة‏,‏ وليقيموا من الدين
حارسا علي الدنيا لن تؤتي أكلها‏,‏ ما لم يستبصر هؤلاء هذا القانون العظيم
الذي استخلصناه من الآية السابقة‏,‏ فإذا ضممنا إلي هذا ما وعد الله به
نفس الفئة المؤمنة بأنه ناصرهم وآخد بأيديهم الي الغاية التي يرومون
الوصول اليها‏,‏ وذلك في مثل قوله تعالي إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في
الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏(‏ سورة غافر‏:‏ آية‏51)‏ وما جاء في
أواخر سورة الانبياء في قوله تعالي‏:‏ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏(‏ الآية‏105)‏ أقول‏:‏ إذا ضممنا هذه
الآيات إلي تلك الآية‏,‏ لأشرقت وجوه المؤمنين بتباشير النصر المبين‏

‏
وانقشعت تلك الكآبة التي تعلو وجوه المتشائمين الذين يقيسون الأمور بمقياس
غير المقياس الحقيقي لها‏,‏ الذي أومأت اليه هذه الآيات مجتمعة وأما نحن
فيوم أن نتولي عن الأخذ بتلك الأسباب‏,‏ فليس بمستنكر علي الحق سبحانه
وتعالي أن يأتي بأناس غيرنا يتحقق علي أيديهم قانون الله الغالب‏,‏ قانون
الأسباب والمسببات كما يشير الي ذلك قوله تعالي وإن تتولوا يستبدل قوما
غيركم ثم لايكونوا أمثالكم‏(‏ صدق الله العظيم‏)(‏ سورة محمد‏:‏ من الآية
الأخيرة‏).‏