صـوت من القـدس بقلم : د‏.‏ غازي زين عوض الله

من طرف **ابراهيم** الخميس مايو 07, 2009 3:55 pm

صـوت من القـدس
بقلم : د‏.‏ غازي زين عوض الله
كاتب من المملكة العربية السعودية

صـوت من القـدس بقلم : د‏.‏ غازي زين عوض الله 44712_3m

هذا
هو عامك يا زهرة المدائن وزيتون الحمائم وترنيمة السلام وشاهدة الآلام‏..‏
هذا هو عامك وهذا هو قدرك‏,‏ وعلي قدر الكرام تكون المكارم وبقدر العزم
تنهض العزائم‏..‏ فالمدن كالرجال في تاريخ الأمم‏,‏ ولكل مدينة نصيبها من
الخلود في ديوان الانسانية الذي سطرته همم العظماء‏..‏

هذا هو عام
القدس عاصمة الثقافة العربية الذي نحتفي به جميعا نحن من نتحدث بلسان عربي
مبين‏..‏ وما اكثر واروع وانبل حديث القدس بلسانها العربي‏..‏

انني
اكاد اراها تنطق كما الحال في تجربة الصوت والضوء التي تروي حضارة
الوادي‏..‏ اكاد اري شعاع الشمس يسطع فوق اولي القبلتين حيث سار الانبياء
ينشدون الحق والخير للمعذبين والمتعبدين الذين يجدون في الكلمة عزاء وفي
افق السماء ملاذا رحيبا بعد ان ضاقت بهم البقاع وطردهم المتغطرس وهزأ بهم
المتكبر‏..‏ هنا سارت خطاهم هؤلاء الذين بعثتهم السماء برسالة السلام
والمحبة للجميع فرفضهم من رفض ليستولي علي خيرات الارض وحده ظنا منه انه
الاولي والاحق وهو لا يعلم ان السماء تحتضن المخلصين وتمسح دموع المقهورين
والضعاف وانها ستظل معهم ما داموا يتطلعون الي نورها ويثقون في
كلماتها‏..‏ هنا تشرق العدالة وتنشر اثيرها لكل الارواح المتعبة التي خرجت
من ديارها وفارقت اهلها وما اكثر هذه الارواح وانبلها اذا كانت تسعي للخير
والمحبة بإصرار المخلصين علي المبدأ الذين يرون الحقيقة في جوهرهم كما
يرونها في تجربة التاريخ التي أمرهم الله جل وعلا بتأملها وفهمها والتعلم
منها‏.‏

أكاد أري نورا يشق ظلمات الغطرسة والطغيان يدعو للسلام
ويرد علي الذين لا يدركون حكمة الحق ولا يفهمون معجزات السماء‏..‏ هنا يا
مريم كان اتهامك بالباطل‏..‏ هنا يا مريم كان صمتك نطقا وكبرياؤك صمتا
ونقاؤك طهرا وبراءتك بيضاء تشهد بها كلمات الله ويعلنها داعي السلام‏..‏
هنا كانت الآلام‏..‏ كان الظالم يطارد صوت السماء‏..‏ يلهث خلفه‏..‏ يسعي
لإسكات دعوة التسامح والمساواة‏..‏ هنا كان المسيح أقوي من كل عذاب‏..‏
وكانت رعاية الله له معجزة مثلما كانت النار بردا وسلاما علي أبي الأنبياء
من قبل‏..‏ هنا سيصعد الصوت الناطق بالحكمة وهو بعد وليد إلي السماء شاهدا
علي الظلم والقسوة وجبروت الغاشم الذي يعلم ان ا لكلمة لا تموت‏..‏ هنا
وفي جوف الليل وقلوب البشر نائمة وعقولهم سادرة في ظلمات لا حدود لها ستصل
خطي نبي النور في رحلة الاسراء واصلة بين الارض والسماء فرحلة الانبياء
تتواصل‏..‏ وخطاهم تتعانق لأن كلماتهم واحدة في المصدر والمقصد‏..‏ هنا
تبدأ رحلة جديدة تصل حلقات التاريخ وتصل الروح بالمادة وتصل التجربة
الانسانية بحكمة السماء التي يهبها العليم القدير لمن يشاء من الذين
اخلصوا الروح والضمير‏.‏

هنا خيوط متصلة‏..‏ نسيج سماوي علوي مكتوب
لمن اخلص قلبه وعمله‏..‏ هنا نري الحكمة ونفهم الكلمة‏..‏ كان صلاح الدين
يمتطي الجواد فارسا مقاتلا وشهما نبيلا يداوي جراح جنوده واعدائه ايضا‏..‏
هنا تتحد كلمة المسلم والمسيحي في الدفاع عن الشرق‏..‏ وكما يجود احمد
بحياته شهيدا يفدي ارضه يجود عيسي ايضا معه في خندق واحد‏..‏ ويروي الغرب
قبل الشرق سيرة الفارس الذي يفعل النبل مسلكا ويتخذ الصدق مذهبا والحق
مطلبا‏.‏

هنا اندحر الغزاة من الغرب ومن الشرق‏..‏ هنا القلب الذي
احتفظ بجوهر النور‏..‏ القدس التي نحتفي بها عاصمة ثقافية وما نسيناها
ابدا‏..‏ ولكن استدعاء الماضي يلهم الحاضر لآفاق المستقبل‏..‏ وما صنع قوم
مجدا إلا من نبض أمهاتهم ودقات قلوبهن وحكاياتهن التي روت امجاد الاجداد
وقطفت ثمار الاحلام من جوف الماضي البعيد لتعانقها بصائر الجيل الجديد‏.‏

وكان
نور الذكريات قائدا لي لنور الابداع فذهبت الي مكتبتي وفتحت سجلات التاريخ
لاري كم من اهل القدس قد ابدعوا لتراث الانسانية‏..‏ وقد صح ظني فما بخلت
القدس بعلم ولا فن‏..‏ منها اتي الفقيه والمحدث والاديب والخطيب والشاعر
والفلكي والجغرافي والمؤرخ‏..‏ ومنها خرج المعلم للقاهرة والحجاز والشام
والمغرب واليها جاء كل قاصد ايضا‏.‏

ومن جميل ما وجدته من ادباء
القدس هذا العالم الجليل عز الدين بن غانم المقدسي‏,‏ وكلمة المقدسي لقب
فالقارئ اذا عاد الي تاريخ الفنون والآداب سيجد كثيرا من المقدسيين الذين
ابدعوا واحتفظوا لمدينتهم بالصدارة في تاريخ الحضارة‏,‏ عاش عز الدين بن
غانم في القرن السابع الهجري في زمن كانت فيه حروب وصراع وأتي الي القاهرة
فاستقبله اهلها بحفاوة عظيمة وخصصوا له وقتا لجلسات العلم وندوات الادب‏,‏
والف الرجل كتابا رائعا اسمه كشف الاسرار في حكم الطيور والازهار‏,‏
وخلاصة رأيه في هذا الكتاب ان الله سبحانه وتعالي وضع في كل مخلوقاته
اسرارا عظيمة اذا نظر الانسان اليها سيتعلم منها فن الحياة‏..‏ فن التعاون
والسلام والتآلف والمحبة‏..‏ وضرب امثالا عالم النمل والنحل والسباع
والانعام والريحان والسحاب وشبه الكون كله بروضة جميلة متناغمة متكاملة لو
نظر الانسان اليها بعين العقل لتجلت له عن كثير من الحكمة الخافيه عنه
التي يظل عمره ينشدها ولكن لا يطالعها إلا من أعمل بصيرته‏.‏

كان
كتاب المقدسي درسا في الحب والتفاهم‏..‏ لذلك نشره الفرنسيون والالمان
والانجليز وترجمه ادباؤهم منذ ان عرفت اوروبا المطبعة‏,‏ والاهم من ذلك ان
في الكتاب وصفا علميا دقيقا جدا لسلوك الكائنات المختلفة وطبائعها‏,‏
فاهتم به علماء الحيوان والنبات وأقاموا عليه دروسهم واستقوا منه
مفاهيمهم‏.‏

كان هذا واحدا ممن قدمتهم القدس للإنسانية‏..‏ رجلا
رسالته السلام‏..‏ يبحث عن العنصر المشترك بين البشر ويلمس المختلف بينهم
ويدعو للتعلم الدائم من ثقافة التشابه والاختلاف‏..‏ رجلا سابقا لعصره‏..‏
وهكذا حال كبار المفكرين‏..‏ كدت اري فيه مقالات استاذ جيلنا زكي نجيب
محمود يوم الثلاثاء في الأهرام حين كان يدعو الي فهم النفس واستغلال افضل
ما فينا وغرس قيم العقل ومثل الفضيلة لكي نستحق أن نكون شهداء علي
العالم‏..‏ وادركت ان زكي نجيب محمود كان يواصل رسالة المقدسي لأن نور
الروح والعقل يسطع علي افئدة المخلصين‏.‏

تحية لعاصمتنا
الثقافية‏..‏ قدسنا المنيرة المستنيرة‏..‏ وعلينا أن نوحد كلماتنا
بنورها‏,‏ ساعين لتحقيق العدالة والمحبة‏,‏ داعين بعودة ابنائها اليها بعد
كل ما عانوه من آلام وحرمان‏.‏