أمام المقهي بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف roidaa الثلاثاء مايو 12, 2009 1:30 pm

أمام المقهي
بقلم : إبراهيم أصلان

كان
انتهي من التصوير‏,‏ وأغلق الكاميرا وانحني يعيدها الي حقيبة كتفه الجلدية
المفتوحة الي جوار قدمه الأخري‏,‏ ثم أغلق لسانها العريض واعتدل‏.‏

كان
صورني من هنا ومن هناك وقال إنها لإحدي الجرائد العربية‏,‏ وكنا نجلس علي
المقاعد وراء المنضدة بقرصها الزجاجي المستدير علي الرصيف العريض أمام
كافيتريا المجلس الأعلي للثقافة‏,‏ وعندما جاء الشاي أخرج علبة سجائره
وأعطاني واحدة أخذتها وأخبرته انني ممنوع من التدخين‏,‏ وبعدما أشعلها لي
تطلع الي الناحية الأخري وقال‏:‏ـ علي فكرة‏,‏ أنا صورت حضرتك كتير قبل
كده‏..‏

تأملته محاولا التذكر من دون جدوي‏,‏ وكان يجلس أمامي
بصدره الضيق وبطنه الممتلئ قليلا‏,‏ وقال انه التقاني قبل نحو عشرين عاما
وصورني‏,‏ كان عائدا أيامها من العراق حيث عمل في بعض الصحف والمجلات
هناك‏,‏ يصور ويكتب تعليقات لها طبيعة فنية أو سياسية‏,‏ حينئذ سألته عن
أية أخبار يعرفها عن بعض الأصدقاء من الكتاب والصحفيين العراقيين الذين
قيل إنهم ماتوا أو هاجروا أو مازالوا هناك‏,‏ ظل يهز رأسه مع الأسماء التي
أسأله عنها بما يعني أنه يعرف هذا ولا يعرف ذاك‏,‏

وكان يفعل ذلك
من دون أن يظهر عليه أي انفعال من الانفعالات التي تبدو علي الواحد عندما
يتذكر شخصا كان منسيا‏,‏ لذلك شككت أنه يعرف اسما واحدا منها‏,‏ وعندما
سألته إن كان حضر الحرب في العراق‏,‏ قال إنه حضر الحرب بين العراق وإيران
ثم حضر غزو العراق للكويت‏,‏ كما حضر ضرب العراق بالطائرات الأمريكية ولم
يحضر اعتقال صدام حسين ولكنه رآه بلحيته وشعره المنكوش في التليفزيون
عندما كان يجلس في بيت خالته عند شبرا المظلات‏,‏

وأطفأ السيجارة
وقال لو إن صدام كان استمع الي الناس الذين كانوا يرجونه الانسحاب من
الكويت ما كان حدث ما حدث‏,‏ أخبرته أنني متأكد أنه لو وجد صيغة لغوية
محترمة ينسحب بها وتحفظ له كرامته كان انسحب‏,‏ وقلت إنني لما رأيته في
التليفزيون يلقي قصيدته التي يقول فيها‏:‏ وأسرج لها الخيل أدركت أن
النهاية قادمة لا محالة‏,‏ وهو سمعني وقال إنه كان عضوا في حزب البعث
عندما رأي تعميما يطلب أن تخرج المظاهرات بعد يومين تحت شعار‏:‏ نريد
الأصل ولا نريد الفرع أي نريد العراق ولا نريد الكويت‏,‏ حينئذ يتم
الانسحاب نزولا علي رغبة هذه الجماهير‏,‏ ولكن الأمريكان الذين لا يريدون
ذلك أذاعوا في الإذاعات الموجهة أن صدام دبر مظاهرات تقول كذا وكذا لكي
ينسحب قبل أن يضربوه‏,‏ طبعا كبرياء الرئيس لم يسمح وجاءت تعليمات بإلغاء
المظاهرة‏,‏ وبدأ ضرب بغداد فورا‏.‏

أنا قلت إنهم بهدلوا البلد‏,‏
الله يخرب بيوتهم‏,‏ وهو قال إن كل شئ كان مقدورا عليه إلا الصاروخ الذي
كانت تطلقه المدمرات من عرض البحر‏,‏ وقال إنه أصغر من البرج قليلا‏,‏ كان
ينفجر وضغط الهواء يحول المباني الي تراب يشفطه ويرميه بعيدا‏,‏ والمكان
يتحول الي ميدان خال من كل شئ ماعدا النخل‏,‏ وحضرتك عارف أن المصري واعي
جدا‏,‏ ولذلك تلاقي الواحد منهم يتمشي علي مقربة من النخلة‏,‏ أول ما يسمع
صفارة هذا الصاروخ يحضن النخلة بسرعة ويلف عليها يديه وساقيه‏,‏

ولما
يحصل الانفجار يلاقي نفسه في لمح البصر جذب الي أعلي الجذع بحيث تصبح
دماغه عند البلح بالضبط‏,‏ ولما سألته عن أخينا الذي توجد دماغه عند البلح
وكيف سوف ينزل من هناك انحني وتناول حقيبته وقال إن كل شئ له وضع مختلف‏,‏
ورأيته يتقدم أمامي علي الرصيف العريض ويتجاوز السلسلة الحديدية‏,‏ راح
يبتعد مائلا تحت الشجرة وسير الحقيبة علي كتفه وهو يسندها من أسفل بيده
الأخري‏.‏