نحو ثقافة الفعل وجودة الأداء بقلم : د‏.‏ مصطفي النشار

من طرف منة الله الخميس مايو 14, 2009 10:05 am

نحو ثقافة الفعل وجودة الأداء
بقلم : د‏.‏ مصطفي النشار

إن
من أبرز الظواهر السائدة في مجتمعنا هو غلبة الأقوال علي الأفعال في أحيان
كثيرة‏,‏ إذ يكثر بين المصريين في جميع طبقاتهم ومستوياتهم الاجتماعية
وفئاتهم الوعود القولية وخطاب التطمين والإجادة والإتقان‏,‏ والحب
والتعاون‏,‏ والارتقاء في الأداء سواء كان في مجال الزراعة أو الصناعة أو
حتي في مجالات البحث العلمي‏.‏

لقد تربينا علي العيش بين الكلمات
وأدمنا الكلمات المعسولة الفضفاضة ذات المغزي التفاؤلي المخدر‏,‏ أدمنا أن
نؤجل المشكلات أو نحلها مؤقتا عبر الكلمات والخطط النظرية الفضفاضة
للإصلاح‏.‏

وكم كان نزار قباني شاعر العربية المعاصر الشهير بليغا
في التعبير عن هذا المرض الموجع في المجتمعات العربية حينما قال مقتلنا
يكمن في لساننا ـ فكم دفعنا غاليا ضريبة الكلام وكم كان بليغا حينما عبر
عن حالة الانفصال بين الأقوال والأفعال‏:‏ إذا خسرنا الحرب‏..‏ لا غرابة
لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة‏..‏ بالعنتريات التي
ما قتلت ذبابة لأننا ندخلها بمنطق الطلبة والربابة‏.‏

تفقد الكلمات
في مجالات الحياة المختلفة اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو علمية
مغزاها ولا تصبح ذات صدي ولا مصداقية واذا كان المناطقة منذ أرسطو قد
أكدوا ضرورة أن يكون ثمة ما صدقات أي موجودات مادية واقعية لأي مفاهيم أو
تصورات يبدعها العقل وتظهر في القول فإن هذا بالضبط هو ما نقصده حينما
نقول إنه غلبت علينا ثقافة القول والكلام وغابت عنا ثقافة الأفعال
والأداء‏.‏

وإذا كان ذلك يمثل خللا في مجتمعنا المصري بكل طبقاته وفئاته سواء شعروا به أو أشعرناهم نحن به‏,‏ فما هو العلاج؟‏!.‏

العلاج
ببساطة يتلخص في ضرورة أن نزن الكلام بميزان الأفعال‏,‏ وألا نستخدم إلا
ألفاظا تطابق وقائع‏,‏ وألا نصف إلا ما هو موجود وكل ذلك لن يتأتي ولن
يمتلكه الإنسان المصري خاصة والعربي عامة إلا إذا تخللت حياته الثقافة
العلمية‏,‏ لأن هذه الثقافة العلمية التي تحدثنا كثيرا عن ضرورة استيفائها
وتنميتها في البيئة الاجتماعية المصرية وكذلك العربية‏,‏ هي التي ستنقلها
بالضرورة علي حد تعبير أستاذنا د‏/‏زكي نجيب محمود من حضارة اللفظ الي
حضارة الأداء وإذا كان عماد هذه الثقافة العلمية هو البحث العلمي منهجا
ونتائج‏,‏ فإن هذا البحث العلمي واتباع خطواته وتمثل أسسه وآلياته هو ما
سنخرج بواسطته من دنيا اللغة الي دنيا الأشياء‏.‏

وبالطبع فإن هذا
يقودنا الي قضية قلة الإنفاق علي البحث العلمي‏,‏ ذلك الإنفاق الذي لا
يتعدي لدي الحكومات العربية‏0,3%‏ وهذه نسبة مزرية ومتدنية الي الحد الذي
يجعل من باحثينا العلميين من يهربون من المعاهد العلمية والبحثية العربية
الي دول العالم المتقدمة‏,‏ وهو نفسه الذي جعل من يبقي منهم هنا يكتفي
بتكرار واجترار أبحاث علمية سابقة مكتفيا بثقافة التكرار والاجترار غير
قادر علي خوض غمار الإبداع العلمي الذي سيجعله حتما يلتزم باللغة الكمية ـ
الأدائية أي التي تؤدي أو تشير الي وقائع محددة وتستخدم القياس الكمي الذي
هو قمة اللغة العلمية المطلوبة‏,‏ تلك اللغة الموضوعية التي لابد أن
نكتسبها ونجعلها هي اللغة العلمية بألف ولام التعريف‏,‏ وأن نستخدمها في
كل مجالات البحث والحياة العلمية‏.‏

وإذا من تم ذلك بين النخبة
الباحثة والعالمة والمثقفة علميا ستنتشر عبرهم بين مواطنيهم ويتحولون شيئا
فشيئا من مستخدمين للغة خطابية وصفية بوهيمية غامضة ملتبسة لا يصدقها
واقع‏,‏ الي مستخدمين للغة علمية مؤدية إلي وقائع مادية‏,‏ ومعبرة عن
حقائق محسوسة ملموسة‏.‏

إن ما شأن سيادة هذا النمط اللغوي الأدائي
ليس فقط العلاج من الانفصام السائد لدينا بين الأقوال والأفعال‏,‏ وإنما
من شأنه أيضا أن يعالج لدينا أوجاعا وعيوبا أخري انتشرت في المجتمع وسببت
الخلافات والمشاحنات بين أفراده مثل خلط المفاهيم وعدم وضوحها في أذهان
مستخدميها‏,‏ ذلك الخلط الذي جعلنا نخلط الدين بالسياسة فنتصور أن حل
مشكلاتنا سيكون بالتدين قائلين بكل بساطة الإسلام هو الحل‏!‏ والحقيقة هي
أن الإسلام دين عظيم قد يكون به حلول لمشكلات عديدة لكن هذه الحلول يقدمها
الناس حسب ما يعيشونه وحسب ما يطرحه عليهم عصرهم من قضايا سياسية
واقتصادية تتجدد دائما وتتطلب الاجتهاد والتطور من علماء السياسة
المتخصصين فيها‏.‏

وهو ذات الخلط الذي جعلنا نتحدث عن القرآن وكأنه
كتاب علم‏,‏ والحقيقة أنه إذا كانت بعض الآيات القرآنية تلقي اضواء أو
تلمح الي بعض الحقائق العلمية‏,‏ فإن تفسير القرآن وآياته علي ضوء هذه
النظريات العلمية مسألة في غاية الخطورة‏,‏ فالنظريات العلمية ليست حقائق
ثابتة‏,‏ بل هي قابلة للتغيير والتطوير والتعديل حسب التطورات العلمية
وتجدد آليات البحث العلمي ومن ثم فالربط بين فهم الآيات الكريمة وبين مثل
هذه النظريات القابلة للكسر والتعديل يعني ربط المطلق‏(‏ القرأن‏)‏
بالنسبي‏(‏ العلم‏)‏ وهذا فيه ما فيه من الخطر علي الدعوة الإسلامية
والفهم الحقيقي لأيات القرأن الكريم‏.‏

وإذا كانت هذه مجرد أمثلة
علي أنماط الخلط والغموض في المفاهيم اللغوية الشائعة‏,‏ فإن مثيلاتها في
حياتنا العلمية والعملية تفوق الحصر‏.‏

ولذا وجب التحول الي اللغة
العلمية الدقيقة التي لا يتناقض فيها اللفظ مع الشيء‏,‏ بل دائما ما
يستخدم اللفظ أي لفظ دالا علي شيء ما قابلا للقياس والفهم الواضح‏.‏