الوطن لايعاقب ولايجري التحريض عليه‏!!‏ بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

من طرف karem الإثنين مايو 18, 2009 7:33 pm

الوطن لايعاقب ولايجري التحريض عليه‏!!‏
بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

كورتليني
رجل ضيق الأفق‏,‏ يمارس العماية‏,‏ حجبت عنه جهالته الوعي بأن الاشتباك مع
الواقع ومفاهيمه له ثمنه في نمو المعرفة‏,‏ وتغيير الفهم‏,‏ فالمعرفة تقلل
من مساحة الجهل‏,‏ والفهم يمنح إمكانية التحول والتغيير‏,‏ حيث بهما تتبدل
خرائط الإدراك‏,‏ وتتخلق الإمكانات المفتوحة علي الخيارات‏.‏ لم يدرك أن
القراءة الفعالة للواقع وللذات‏,‏ ليست في معرفتهما فحسب‏,‏ بل أيضا في
فهمهما‏,‏ وهو مالا يتأتي إلا من خلال مواجهة الذات‏,‏ والاشتباك مع
المفاهيم التي تحكم هذا الواقع‏,‏ وليس العيش علي هامشه‏.‏ كان كورتليني
يعيش مع أمه الطاعنة في السن‏,‏ التي علمته منذ طفولته رعاية الدجاج‏.‏
كان لديه أربعون دجاجة شديدة الإذعان له‏,‏ عندما يتأخر في الحضور‏,‏ تصطف
الدجاجات واقفة في انتظاره‏,‏ ليسوقهن إلي الحقول لينبشن في الأرض
ويأكلن‏,‏ ولأنه كان لايحسن قراءة الواقع‏,‏ فقد كان يجمع البيض‏,‏ لكنه
لايستطيع عده‏,‏ إذ لم يكن يجيد ممارسة آليات الحسابات‏,‏ أي أنه لا يمتلك
قدرة استثمار منتج ما يمتلكه‏,‏

وذلك ما يؤكد أيضا مصير هدره
المحتوم‏.‏ لم تكن لديه أية ميول أخري معينة في الحياة‏,‏ من حيث المهارات
والخبرات‏,‏ لافتقاده الحس النقدي‏,‏ والتوجه المستقبلي‏,‏ إذ لم يحاول أن
يغير علاقته بذاته‏,‏ وبالواقع المحيط به‏,‏ وكأنه محكوم بالاحتذاء بما هو
عليه‏,‏ ومستتبع بسلطة مدارية لايقوي علي التحرر منها‏.‏ وكان عندما تنام
الدجاجات‏,‏ يذهب إلي البلدة وسط رواد المقهي من الرجال‏.‏

في إطار
كرنفال احتفال البلدة بالصوم الكبير عام‏1956,‏ وفي ليلة الثلاثاء
الدسم‏,‏ اتفق عمدة المدينة‏,‏ ومدير قطاع الشباب علي توزيع أنوف مستعارة
علي المدعوين من الذكور‏,‏ أما النساء فقد وزع عليهن شعر ساحرات
مستعارا‏,‏ لإضفاء البهجة علي الكرنفال‏.‏ كان كورتليني أكثر المتحمسين‏,‏
حيث ارتدي الأنف المستعار ولم يخلعه بعد ذلك قط‏.‏ صحيح أن الجميع في ظل
الكرنفال يعيشون في مرح صاخب‏,‏ ليس فيه من عارضين ومتفرجين‏,‏ إذ هم
الضاحكون والمضحكون في آن‏,‏ وصحيح أيضا أن منطق الكرنفال هو الازدواج‏,‏
حيث يرمز القناع إلي الزائف‏,‏ والمصطنع‏,‏ وغير الأصيل بالنسبة إلي من
يرتديه‏,‏ وصحيح كذلك أن القناع في الكرنفال يرتبط بفرح التغيير‏,‏
والتحول‏,‏ واتخاذ هوية مغايرة مؤقتة لدي من يرتديه‏,‏ لكن الصحيح أن ذلك
كله يجري بروح الضحك‏,‏ ووفق منطق الاستثناء المحدود بانتهاء زمن طقوس
الكرنفال‏.‏ تري لم تشبث كورتليني إذن بالقناع المصطنع‏,‏ وماذا يعني
استمرار الحالة الكرنفالية لديه بعد انتهاء توقيتها؟ كان الجميع من أهل
البلدة عند رؤيته مرتديا الأنف المستعار في الأيام العادية يمازحونه‏,‏
وفي المقهي كانوا يوجهون اليه الكلمات الضاحكة‏,‏

في حين يظهر
كورتليني وجها مقطبا‏,‏ كما لو كان يضحك‏,‏ ولم يكن أحد يفهم ما إذا كان
يضحك أو أنه هكذا في وضعه الطبيعي‏,‏ حتي إنه كان أحيانا يئن من الألم‏.‏
لقد كان يتبدي وكأنه مازال وحده منفردا يعايش منطق الكرنفال‏,‏ من حيث
ازدواجيته‏,‏ متأرجحا بين النقيضين‏,‏ متذبذبا يعيش علي حافة واقعة‏,‏
وأيضا علي حافة اللعب‏.‏ تري هل كان كورتليني في حاجة إلي أنف مستعار في
حياته الواقعية‏,‏ أو أنه كان في حاجة إلي أن يتحررمما هو عليه في واقعه؟
لقد تعددت محاولات المزاح من أهل البلدة معه بنزع الأنف المستعار‏,‏ لكنها
فشلت جميعها‏,‏ حتي عندما كان يجتمع عليه ثلاثة أشخاص‏,‏ كان يتخذ وضعا
مضادا‏,‏ ويشرع في الرفس العشوائي في هياج خطر‏.‏ إن شطط كورتليني‏,‏
وجنوحه إلي التشدد في مقاومته‏,‏ قد أحدثا فوضي في البلدة‏,‏ وشكلا تحديا
بالنسبة إلي الأشخاص الذين يحاولون نزع الأنف‏,‏ فإذ بهم لم يعودوا
مدفوعين بالمزاح‏,‏ بل انقلب موقفهم‏,‏ وتقطبت وجوههم تجاهه‏,‏ حيث تبدي
الأنف وكأنه نكاية فيهم‏,‏ بوصفه مناقضا لارادتهم‏,‏ معاكسا لأعرافهم‏,‏

وبذلك
أصبح نزع الأنف موضوعا لمطلب اجتماعي‏,‏ واستمر الموقف مفتوحا لشهور
عدة‏,‏ حتي إن صاحب المقهي فكر في منعكورتليني من التردد إلي المقهي‏,‏
إلا أن البعض اعتبر ذلك ظلما له‏,‏ ورأي البعض الآخر أن الاتهام لابد أن
يوجه أساسا إلي من أعطي أنفا مستعارا لشخص غير ناضج من دون إحساس
بالمسئولية‏,‏ وأمعن محترفو المكر السياسي في تحويلها إلي مشكلة سياسية‏,‏
ودارت مناقشات مطولة في المقهي بوصفه مركز المعارضة‏.‏ وبناء علي طلب
العمدة‏,‏ وصلت بعثة إدارة الطب النفسي‏,‏ التي واجههاكورتليني مزهوا
بأنفه المستعار زهوا متعاظما‏.‏ حاول رئيس البعثة بكل التدابير العلمية
لمهنته أن يهتدي إلي نزع الأنف عنه سلما‏,‏ لكنه أخفق‏,‏ وعندما استنجد
بأعضاء البعثة لاستخدام القوة دون أذي‏,‏ تصدي كورتليني لهم بالتكتيك
الفعال الذي اكتسبه خلال دفاعاته‏,‏ حيث تملكته قوة خارقة لحماية الأنف
المستعار‏.‏

لم يظهر كورتليني قط إلا وهو يرتدي الأنف المستعار‏,‏
بل يمارس عمله مع دجاجاته مزهوا بارتدائه‏,‏ واستمر أيضا في ارتياد المقهي
بأنفه المصطنع‏.‏ لم يحاول رواد المقهي الذين يمثلون شراسة المعارضة‏,‏ أن
يخلعوا عنه الأنف مرة أخري‏,‏ وذلك منذ أن تحول إلي مشكلة سياسية‏,‏ لكنهم
مع كل نقاشاتهم‏,‏ وانتقاداتهم المتنوعة‏,‏ لم يصلوا إلي تحديد الهدف من
سلوكه‏,‏ وظلت مسألة الأنف غير مفهومة‏.‏ ولأنه ليس هناك من اصطناع بوسعه
البقاء إلي الأبد‏,‏ لذا فقد تآكل الأنف المستعار بفعل الطبيعة‏,‏ حتي إن
أحدا لم يشعر به تقريبا‏.‏ لكن يبقي السؤال الأساسي الذي يبحث عن إجابة‏:‏
تري ما الذي لم تستطع جماعة رواد المقهي أن تقرأه في شخصية كورتليني‏,‏
كشفا عن مقصد سلوكه؟ لا خلاف أن السلوك البشري يعتمد علي الدوافع التي
تحركه‏,‏ ولا شك أن المختبر الطبيعي الذي يسمح بمعرفة سلوك كورتليني‏,‏
وتفهم دوافعه‏,‏ إنما يتحدد من خلال دراسة محل إنتاج سلوكه وطبيعته في
علاقته بمجموعة الدجاجات التي تمثل عالمه‏,‏ إذ ينتج ذلك فهما للمستويات
الأعمق لسلوكه‏,‏ ويمنح إمكانية إجراء المقارنة عندما يتبدل الوضع‏,‏
لمعرفة التغيير الذي يحدث في طبعه‏.‏

إن كورتليني في وضعه اليوم
يمارس علي الدجاجات سلطة وحدانية مطلقة‏,‏ فهو يخضعها لأوامره بغرور
المالك لها‏,‏ وليس بملكات أخري تميزه‏,‏ ومن الواضح أن رواد المقهي
يعرفون ما لا يملكه كورتليني في ذاته‏,‏ وما ليس مؤهلا لامتلاكه‏,‏ لذا
فإنه عندما يرتاد المقهي‏,‏ بوصفه عالما مغايرا عن عالم الدجاجات‏,‏
يستشعر أن مناخ المقهي يسلبه وجوده الموهوم به‏,‏ بل يدفن واقعه‏,‏
وسلطته‏,‏ وتفرده‏,‏ وألق ذاته الذي يمارسه زهوا مع دجاجاته‏,‏ وما يشحنه
به من ثقة بأن العالم كله تحت يده‏.‏ هذه المفارقة بين العالمين‏,‏ بين ما
يحققه بالفعل مع دجاجاته‏,‏ ويزهو به‏,‏ ثم ما يرغبه‏,‏ ولا يمنحه له مناخ
المقهي‏,‏ قد فجرت لديه عدم الرضا‏,‏ الذي كشف عن مكبوت خصال طبعه‏,‏
مجسدا في سادية ذهنية‏,‏ تتخفي تحت حجاب ترتسم عليه شعارات النظام والطاعة
والالتزام التي تتبدي في سلوكه مع عالم دجاجاته وإذعانها له‏.‏ صحيح أن
جوهر السادية الذهنية هو الإذعان‏,‏ ويعد أهم رهاناتها في تحقيق لذة
ممارستها‏,‏ والصحيح أيضا أن كورتليني يعاني سادية ذهنية مسيطرة‏,‏

لذا
فإن تشبثه بارتداء الأنف المستعار‏,‏ وزهوه به‏,‏ بعد انتهاء الكرنفال‏,‏
ومقاومته الدائمة لمحاولات انتزاعه‏,‏ إنما يعني أنه يفرض الاذعان علنا
علي مجتمعه ـ وتحت الإبراز ـ بإكراهه علي قبول وجوده‏,‏ بوصفه الشخص
الوحيد الذي يرتدي الأنف المستعار في غير توقيته‏,‏ إذ حول عجزه إلي قدرة
تتجسد في إذعان الآخرين لما يفرضه‏,‏ وإن كان الأمر ـ من جانب ـ آخر لا
يخرج في حقيقته عن سياق دوائر ممارسة الإغاظة‏,‏ حيث يبدو كورتليني وكأنه
يرمم ذاته‏,‏ لذا فثمة استلهام بالمشابهة يجمع شخصية كورتليني في قصة
الكاتب الايطالي ارمانو كافاتسوني‏,‏ التي بعنوان كرنفال عام‏1956,‏ وبين
شخصية سعد الدين ابراهيم‏,‏ الذي يعاني أيضا من سادية ذهنية‏,‏ تستهدف
إذعاننا لما يقول‏,‏ إشباعا لزهو ذاتي يرسخ لديه شعورا بأن العالم كله تحت
يده‏.‏ لقد وضع سعد الدين إبراهيم لنفسه أيضا عقلا مستعارا‏,‏ يرتبط
بأجندة سلطة مدارية حاكمة لقضايا تخصنا‏,‏ وعلينا أن نذعن لتنفيذ
مخططاتها‏,‏ فقد طلب إلينا سعد الدين إبراهيم عام‏1994‏ ـ وفق مقولته ـ
إعادة تأهيل العقل المصري‏,‏ وكان علينا أن نذعن له‏,‏ لتصبح عقولنا علي
مقاس عقله المستعار‏,‏

وذلك حتي لا نصدق أن الغرب الرأسمالي مازال
يخطط ويدبر ويتآمر لنهب المواد الخام من العالم الثالث‏,‏ وبمفهوم
المخالفة علينا أن نوقن إذعانا له‏,‏ أن الغرب يتنازل عن مصالحه من
أجلنا‏,‏ وكان علينا أيضا أن نذعن لعبثه الكارثي بوصفه أهم من آثار الفتنة
الطائفية وأججها‏,‏ تفتيتا للكيان المصري‏,‏ وترسيمها لتهدد استقرارنا‏,‏
وأن نذعن ـ تصديقا لحديثه في قناة بي‏.‏ بي‏.‏ سي البريطانية ـ أن
بنجلادش‏,‏ هذا البلد الذي يتلقي المعونات الاقتصادية‏,‏ هو الذي يشكل
التمويل الأساسي لمؤسسة ابن خلدون‏.‏ ثم كانت آخر التجاوزات السادية
وأكثرها قسوة‏,‏ مطالبته الرئيس أوباما باختيار بلد غير مصر لتوجيه رسالته
إلي العالم الاسلامي منه‏,‏ وذلك ما يدخل في سياق ممارسة الإغاظة
السياسية‏,‏ التي لا تنتج معارضة إيجابية تستهدف تفعيل المسموح‏,‏ وتعطيل
المحظور‏,‏ إذ الإغاظة جنون عماء يبدد الأمل‏,‏ فالوطن الوطن لا يعاقب‏,‏
ولا يختزل‏,‏ ولا يجري التحريض عليه‏.‏ لكن ما العمل ولذة السادي تكمن في
جرح الآخرين‏,‏ حيث يظل دوما خاليا من الحب‏,‏ منعزلا‏,‏ مذعورا‏,‏ في
حاجة إلي قوة أعلي منه ليخضع لها؟ لذا فلا نتعجب إن تبدي السادي دائما
متحررا من ضحيته‏!!‏