الهجرة وأسئلتها‏!‏ بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف هاواى الأربعاء مايو 20, 2009 5:43 pm

الهجرة وأسئلتها‏!‏
بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي

في
الطائرة التي حملتني إلي إيطاليا ضمن الوفد الثقافي الذي مثل مصر في معرض
تورينو الدولي للكتاب‏,‏ وجدت نفسي أفكر في هجرة المصريين لأوروبا‏,‏ وهي
وجه من وجوه ظاهرة تتسع يوما بعد يوم‏,‏ وتفرض علينا أسئلتها الكثيرة
المعقدة التي لم تعد تقبل التجاهل أو تطيق الانتظار‏.‏

كيف نري
تأثير هذه الهجرة علي بلادنا التي لن تتجاوز أوضاعها الصعبة ولن تنمو أو
تتقدم إلا إذا قرر أبناؤها أن يصنعوا مستقبلهم فيها‏,‏ وأن يذللوا ما
يجدونه من صعوبات تعترض طريقهم إلي هذا المستقبل؟

هل يتفق مع
التنمية والتقدم هجرة هذه الأيدي وهذه العقول إلي أوروبا وغير أوروبا علي
هذا النحو الذي يتخذ في بعض الأحيان صورة الفرار واللجوء الجماعي؟ وإذا
كانت الهجرة بابا مفتوحا لانستطيع إغلاقه في هذا العالم الذي أصبح كما
يقال قرية كونية‏,‏ كيف نضبطها ونحولها إلي شكل من أشكال التبادل والتواصل
ووسيلة من وسائل نقل الخبرة والمعرفة وتحقيق التفاهم والتقدم؟

وكيف
نري تأثير هذه الهجرة علي علاقتنا بالعالم وعلاقتنا خاصة بالغرب في مناخ
ملبد بالخوف والعنف وسوء الظن والتعصب‏,‏ مناخ لايسمح للمهاجرين بأن
يندمجوا في المجتمعات الغربية التي استقروا فيها‏,‏ ولايسمح للغربيين بأن
يطمئنوا لهؤلاء المهاجرين الذين تدفقوا علي بلادهم من أنحاء العالم
بثقافاتهم ودياناتهم ولغاتهم وتقاليدهم وأزيائهم المختلفة؟‏!‏

وكنت
في الطائرة قد وجدت نفسي وخلفي سيدة مصرية ـ تحتل مع أطفالها الثلاثة
الصغار المقاعد الأربعة التي تلي مقعدي‏,‏ لم يكن من اللائق أن ألتفت لأري
من يجلس خلفي‏.‏ لكني اضطررت في النهاية لأن أفعل بعد أن وجدت أن هناك من
يدفع ظهر مقعدي منذ جلست‏,‏ ولايكف عن ذلك حتي عجزت عن أن أتحمل المزيد‏,‏
ويئست من أن يتوقف الفاعل بنفسه‏,‏ فالتفت خلفي لأجد السيدة وقد أصر أحد
أطفالها علي أن يجلس علي حجرها ليسلي نفسه ويقطع وقت الرحلة ـ حوالي أربع
ساعات ـ بالعبث في ظهر مقعدي‏.‏ ويبدو أن سكوتي في البداية أغري الطفل
بمواصلة عبثه‏,‏ وأغري أمه بتركه يفعل مايريد‏!‏

رجوتها بحسم أن
تلزم أطفالها الهدوء حتي لايزعجوا بقية الركاب‏,‏ وأخذت أفكر في الهجرة
وأسئلتها المطروحة علينا‏,‏ وقد لفت نظري أن السيدة الجالسة خلفي امرأة
شابة لاأظن أنها تجاوزت الثلاثين‏.‏ وكان أطفالها الثلاثة متقاربين في
السن‏,‏ أكبرهم في نحو السادسة‏,‏ وأصغرهم في الثالثة أو الرابعة‏.‏ وفي
ظني أنهم هم وأمهم أعضاء أسرة مصرية مهاجرة عادوا من زيارة أهلهم في مصر
ليستأنفوا حياتهم مع رب الأسرة الذي بقي في مهجره حيث يكسب رزقه ورزق
أطفاله الذين يزدادون علي مايبدو طفلا كل سنة‏.‏

وقد لاحظت حين
هبطنا مطار مالينسا في طريقنا إلي تورينو أن هناك أكثر من سيدة مصرية تصحب
معها أكثر من طفل تحمل أحدهم وتمسك بيديها الباقين‏.‏ وإذن فإنجاب أكبر
عدد من الأطفال سلوك شائع لدي المهاجرين المصريين الذين يطلقون لأنفسهم
العنان في هذا المجال لأسباب مختلفة منها ثقافتنا الشعبية التي تؤكد لنا
أن الطفل يولد ومعه رزقه‏,‏ وأن الرسول عليه السلام سيباهي بكثرتنا الأمم
يوم القيامة‏.‏ ومعظم المهاجرين المصريين في أوروبا وغيرها من بلاد العالم
ينتمون لأوساط اجتماعية بسيطة لاتجد ماتعتز بامتلاكه أكثر من الأطفال‏.‏
وإذا كانت حاجة هذه الأوساط لإنجاب الأطفال ملحة في الوطن‏,‏ فهي أشد
إلحاحا في المهجر‏,‏ لأن المهاجر من هذه الأوساط البسيطة يجد نفسه في
المجتمعات الأوروبية وحيدا إلي حد كبير معزولا بحكم الثقافة التي يحملها
ويري بها نفسه ويتمثل شخصيته‏,‏ كما يري بها الآخرين‏.‏

والثقافة
التي يحملها المهاجرون المصريون أو معظمهم تنكر وجود المشترك في الثقافات
الإنسانية المختلفة‏,‏ أو تقلل من حجمه وتأثيره‏,‏ وتصر علي أن المصريين
والمسلمين بالذات لهم تصورهم الخاص لكل مبدأ من المبادئ التي أصبحت عقيدة
لكل البشر كالحرية‏,‏ والديمقراطية‏,‏ والحقوق المتساوية للنساء
والرجال‏.‏ وهي ـ هذه الثقافة ـ تصر علي أننا مختلفون عن غيرنا في كل
شيء‏,‏ ليس في اللغة فحسب‏,‏ بل في طريقة التفكير‏,‏ وليس في العادات
فحسب‏,‏ بل فيما نؤمن به من قيم ومانرجع إليه من ضمير‏.‏ وعلي المهاجر إذن
ألا يتصل بهؤلاء الغربيين إلا بالقدر الذي يحقق به مصلحته المادية‏.‏ أما
تجاوز هذا القدر فمزلق يتعرض فيه المهاجرون للاندماج‏.‏ والاندماج فساد
كامل‏,‏ لأنه ذوبان الجزء في الكل‏.‏

هكذا يجد المهاجر نفسه في
المجتمعات الغربية منفيا معزولا‏,‏ ويصبح ملجؤه الوحيد من الشعور بالوحشة
والعزلة أن يصنع خلية يتحرك في داخلها بحرية وأمان‏.‏ عليه إذن أن يهبط
مصر ليختار عروسا تنجب له كل سنة طفلا‏.‏ بهذا يحل المصري مشاكله أو يعجز
في الحقيقة عن حلها‏.‏

انه لايستطيع أن يعيش في وطنه‏,‏ لأنه
لايتمكن فيه من الحصول علي عمل يضمن له حياة كريمة‏.‏ ولايستطيع أن يعيش
في المهجر‏,‏ لأنه لايحب أن يندمج فيه‏.‏ وهو إذن لايعيش‏,‏ ولأنه لايعيش
يعجز عن مواجهة مشاكله والوصول إلي حلول جذرية لها‏.‏
‏
***‏

في نهاية الرحلة لم أستطع إلا أن أنظر بمودة بالغة للطفل الشقي الذي ظل يرفس ظهر مقعدي بقدميه الصغيرتين أربع ساعات متواصلة‏!‏