أوقفوا الغول.. لنأكل مما نزرع بقلم : عبدالعال الباقوري

خواطر عربية
بقلم : عبدالعال الباقوري
أوقفوا الغول.. لنأكل مما نزرع

تجمع أهل القرية. سيطر الحزن علي دنياهم
وهم يرددون: اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا.. الللهم لا تؤاخذنا بما فعل
السفهاء منا. كان هذا. قبل ستين عاماً بالتمام والكمال. وقبل بناء سد مصر
العالي. وإلي اليوم. لايزال الحدث بتفصيلاته حياً في ذاكرة ابن القرية.
يعيشه وكأنه وقع أمس أو قبل ساعات. انه حدث يروي فصولاً أساسية من قصة
النيل والأرض والزرع والفلاح. وإذا كان النيل قد تم ترويضه. وتراجع نحره
في أراضي ضفتيه. فإن أرض مصر الخصبة لاتزال عرضة لنحر أخطر. وهو زحف
المباني خاصة من الفلل والقصور والمشروعات غير الزراعية علي أجود أراضينا
الزراعية. وربما أجود أراضي الزراعة في العالم. وهو زحف مستمر متواصل أصبح
يهدد بعواقب خطيرة. لدرجة أن بعض أصحاب الاختصاص في شأن الأرض والفلاحة
أصبحوا ينذروننا بأنن مصر قد تصحو في زمن غير بعيد فلا تجد أرضاً تزرعها.
إن هذا ليس تهويلاً. ولكنه كما سنري قراءة علمية في وضع يجافي العلم. صحيح
ان مكانة الزراعة في اقتصادنا. ومن حيث نصيبها في الدخل القومي ونسبة
العاملين فيها. قد تراجعت.. ولكن تظل الأرض جوهرة مصرية. وتظل الزراعة هبة
المصريين عبر تاريخهم الطويل. منذ قال "ابن العاص": إن فلاح مصر يبذر الحب
وينتظر الثمار من الرب.. وها هي الأوضاع تنقلب لندمر بأيدينا مصدر ثروتنا.
ولعل هذا ما جعل ابن القرية يسترجع كثيراً أحداث ذلك اليوم قبل ستين
عاماً. حين كانت الشمس تميل إلي الغرب. وحيث سيطر لون غريب هو اللون
الكآبي يا لكآبته علي المكان كله. فزاد الموقف حزناً علي حزن. ومع ذلك.
فإن هذا الحزن علي الأرض والزرع زرع في عيني ابن القرية وفي قلبه وعقله
حباً غير عادي للأرض والزرع واللون الأخضر. ولكل عود أخضر في السهول
والوديان في الدلتا والصعيد. وكلما عبر منطقة صحراوية تمني لو كانت
مزروعة. وكلما رأي أرضاً مستصلحة هتف من أعماقه: اللهم زدها خضرة. اللهم
فجر الينابيع لتروي صحاري مصر. اللهم أغثنا بالمطر كي تهتز أرض مصر وتربو
وتنتج من كل زوج بهيج.. وكم سره انه بعد سنوات وسنوات من ذلك المساء
الحزين. وبعد اقامة السد العالي. تراجع النحر. بل وتحول إلي جزر في مجري
النيل أصبحت تعرف بطرح النهر. أصبحت زراعاتها تسر العين وتعطي انتاجاً
وفيراً. ولكن هذا لم يعوض ما تلتهمه المباني وما تدمره المشروعات غير
الزراعية.

ومنذ سنوات. وحينما زحفت المباني السكنية علي الأرض الزراعية وراحت
تلتهمها ليس متراً متراً بل فداناً فداناً ومئات وعشرات وآلاف الأفدنة.
كانت الصرخة هنا. وعلي صفحات هذه الصحيفة العزيزة: "الغول علي أرض مصر".
كان هذا عنوان "خواطر عربية" في يوم الجمعة 6 ديسمبر 1991 أي قبل حوالي 18
عاماً.. ومن يومها لايزال الغول يسرح ويمرح في الدلتا وفي الصعيد. وفي
خلال فترة وجيزة. كررت الرحلة إلي أسيوط التي تحدثت عنها من قبل. وذهبت
إلي دمياط عبر المنصورة. ومنذ أيام ركبت القطار من القاهرة إلي
الإسكندرية. وفي هذه الجولات الثلاث ازددت حزناً وهلعاً. فقد رأيت كل قرية
تتوسع وتتمدد وتلتهم أرضاً زراعية. ورأيت مدنا تمتد أذرعاً سرطانية في
جميع الاتجاهات ورأيت "القاهرة الكبري" التي كانت يوماً "من المنيب إلي
شبرا" تكاد تتصل وتتواصل من العياط إلي بنها. عبر العديد من القري
والمراكز والعزب والكفور. رأيت شبرا تكاد تلاصق قليوب. وهذه تقترب من طوخ.
ثم تتصافح وبنها. وبئس المصافحة.. وهنا تذكرت أرقاماً وحقائق استخلصتها
وسجلتها. في ظل الاهتمام بهذه الظاهرة الخطيرة التي جعلت أحد كبار
المسئولين عن أراضينا وهو اللواء عمر الشوادفي مدير "المركز الوطني لتخطيط
استخدامات أراضي الدولة" يقول أخيراً انه إذا استمر المعدل الحالي في
البناء علي الأراضي الزراعية "إن شاء الله. سنة 2070 مش هنلاقي أرض زراعية
ناكل منها".. وإذا لم تخني الذاكرة فإن هذا الكلام قرأته في أواخر ابريل
الماضي أو في أوائل مايو الحالي. التحذير أوالانذار نفسه أطلقه قبل أكثر
من عشر سنوات العالم المعروف الدكتور فاروق الباز بقوله: "إذا استمر الوضع
بهذه الصورة "أي تحويل الأراضي الزراعية إلي قصور وفيلات ومشروعات
استثمارية غير زراعية" فسوف تنتهي تماماً الأرض الزراعية في مصر خلال عدد
محدود من عشرات السنين".

أما هذا التوصيف فقد عبر عنه السيد المهندس أحمد الليثي وزير الزراعة
السابق بأن أفضل الأراضي الزراعية التي تم اهدارها تبلغ مساحتها مليوناً
ومائتي ألف فدان. أية خسارة هذه؟. وأية أرض مستصلحة هنا أو هناك يمكن أن
تعوضها؟ خاصة وأن هذه الأراضي المستصلحة قد تحتاج إلي عقود من السنين كي
تعطينا عائداً قريباً مما كانت تعطيه الأراضي التي تم استغلالها.. علي
سبيل المثال وبشكل محدد. هل يمكن أن تعوض الأراضي المستصلحة والتي سيتم
استصلاحها في "الوادي الأسيوطي" الأرض الخصبة السوداء المعطاء التي ذبحت
من أجل اقامة الجامعة الأزهرية أو جامعة أسيوط من قبل؟.. علماً بأن الأرض
الصحراوية غير المحدودة لا تبعد عن أرض الجامعتين سوي كيلو مترات
محدودة!.. ومن أسف. ان هناك مشروعات شبيهة بذلك في كثير من المدن
والمحافظات. وهذه المشروعات والقصور والفلل هي التي تدمر أساساً أراضي
الزراعة. أما المساكن التي يقيمها الفلاحون وصغار الملاك فهي غالبا لا
تمثل إلا نسبة صغيرة من الأراضي التي يجري إهدارها. وهي في بعض التقديرات
لا تتجاوز 15% من الأرض الزراعية التي تم إهدارها علي أيدي المستثمرين
وأكابر وباشوات عصرنا الحالي. ومع ذلك. وطبقاً لتقرير تم طرحه أمام لجنة
الزراعة والري في مجلس الشعب في مايو 2003. أي قبل ست سنوات فإن 336 ألف
بيت ريفي "يسكنها حوالي 1.5 مليون نسمة" تمت ازالتها بالبلدوزرات. ومع
ذلك. فإن هذا النوع من البناء علي الأرض الزراعية لم يتوقف. ولا يمر أسبوع
إلا وتطالعنا الصحف بأنباء عن حملات جديدة ضد المخالفات التي يرتكبها
الفلاحون علي الأراضي الزراعية. فقد ضاقت القري بساكنيها. وضاقت بيوت
الفلاحين عن استيعاب المواليد والعاطلين. ولاتزال مشروعات تنظيم النسل
تتعثر. ولاتزال طوابير العاطلين تتزايد..

إذا ما العمل؟. كيف ننقذ ما بأيدينا من أجود الأراضي الزراعية؟ كيف
نحميها من الإهدار. والبناء والاستثمار غير الزراعي؟ هل من حل؟ من المؤكد
ان هناك حلولاً. من بينها الحل الذي طرحه منذ سنوات العلامة الدكتور رشدي
سعيد بتحويل أرض الوادي. في الصعيد والدلتا. إلي محمية طبيعية. يحظر
البناء عليها وفيها ويعيش فيها عدد محدود من السكان. علي أن تصبح صحاري
مصر مكاناً لتنمية حضرية شاملة وينقل إليها ساكنو وادي النيل ممن لا
يعملون بالزراعة.. وللدكتور سعيد مشروع متكامل للاستفادة من موارد مصر
الطبيعية ومع أن البعض وصفه بأنه "مشروع خيالي" إلا أن حواراً علمياً جري
حوله ثم توقف بينما استمرت الأرض الزراعية تتآكل. ويتم اغتيال أجودها.
بينما نحن نتحدث عن الاكتفاء الذاتي في القمح وغيره. ولم نحقق شيئاً من
ذلك. في حين توالت الوقائع حول استيراد القمح الفاسد.. فمتي نأكل مما
نزرع. ونلبس مما نصنع؟. هذه هي القضية.