التعصب الأيديولوجي والمراوغة الفكرية‏!‏ بقلم : السيد يسين

من طرف تامر الخميس مايو 21, 2009 8:32 pm

التعصب الأيديولوجي والمراوغة الفكرية‏!‏
بقلم : السيد يسين

المتأمل
في أحوال الحوار السياسي العربي لابد له ان يكتشف انه يمر بأزمة عميقة‏,‏
وذلك لان الحوار يفترض أول مايفترض ان المتناظرين حول قضية سياسية ما‏,‏
لابد لهم إذا ما انتهت جولات الحوار ان يغيروا بطريقة جزئية أو شاملة من
بعض قناعاتهم‏,‏ أو يعدلوا من اتجاهاتهم في ضوء تفاعلات الحوار‏.‏

اما
لو خرج المتناظرون من الحوار كما دخلوه‏,‏ ولم يغير اي واحد منهم بعض
قناعاته أو اتجاهاته‏,‏ فمعني ذلك ببساطة انه كان حوارا غير منتج‏,‏ لأن
كل واحد ظل ثابتا علي موقفه لايريم‏,‏ بالرغم من الحجج المقنعة التي قدمها
الخصم‏,‏ أو المعلومات التي عرضها والتي من شأنها ان تغير من طريقة وضع
المشكلة‏.‏

والسؤال الآن‏:‏ لماذا يمر الحوار السياسي العربي بمرض
العقم والجمود؟ نلحظ ذلك في عديد من البلاد العربية‏,‏ وسواء كان الحوار
بين المثقفين والسلطة‏,‏ أو بين المثقفين من اتجاهات مختلفة‏.‏

وحين
تأملت في سبب عقم الحوار‏,‏ ادركت ان هناك سببين رئيسيين هما التعصب
الايديولوجي من جانب‏,‏ واساليب المراوغة الفكرية من جانب آخر‏.‏

والتعصب
الايديولوجي يعني ـ من بين ما يعنيه ـ ان الطرف المحاور الذي يصدر عن
ايديولوجية سياسية معينة‏,‏ يعتقد وهما انه يمتلك الحقيقة المطلقة‏!‏

وبالتالي
فإن خصمه السياسي لابد ان يكون علي خطأ‏,‏ مهما قدم من حجج أو عرض من
وقائع‏,‏ وبالتالي حين يدور الحوار فإن اصحاب الحقائق المطلقة ليس لديهم
ادني استعداد لقبول فكرة ان الممارسة الايديولوجية للتيار الذي يعتنقونه
شابتها اخطاء في المنطلقات أو في التطبيقات لانها اصبحت في اذهانهم اشبه
بالعقائد المقدسة التي لايمكن ان تنطوي علي أي نقيصة‏,‏ سواء في النظر أو
في العمل‏,‏ حتي لو كان حكم التاريخ علي سلبيات الممارسة واضحا وضوح
الشمس‏,‏ ومنطلقا من اعتبارات موضوعية لاتحيز فيها‏.‏

اما المراوغة
الفكرية فهي مرض آخر من امراض الحوار السياسي العربي المزمنة‏,‏ لأن من
يمارسونه من المثقفين يزيفون الوقائع عامدين متعمدين‏,‏ ويتجاهلون اقامة
علاقات السببية بين المقدمات والنتائج‏,‏ ويهونون من اخطر الممارسات‏,‏ في
حين انهم يهولون من ابسط الاخطاء‏.‏

لماذا اسوق هذا الحديث عن
امراض الحوار السياسي العربي؟ اسوقه لأنني تعرضت لتعقيبين بمناسبة مقالين
لي احدهما نشر في الأهرام وصحف عربية أخري عن ازمة التقييم التاريخي
في‏16‏ ابريل‏2009‏ والثاني نشر في جريدة المصري اليوم عن خريطة معرفية
للأمن القومي المصري‏.‏

وقد ادار الحوار السياسي معي حول المقال
الأول مثقف ناصري معروف هو الاستاذ محمد يوسف الذي نشر تعقيبا في جريدة
العربي بتاريخ‏17‏ مايو‏2009‏ عنوانه السيد يسين وكامب دافيد
والديمقراطية‏,‏ اما المقال الثاني فقد ادار الحوار السياسي معي ياسر
شحاتة في جريدة العربي‏,‏ في نفس التاريخ في عمود بعنوان تأملات حزينة‏.‏

والواقع ان التعقيب الأول نموذج بارز للتعصب الايديولوجي‏,‏ اما التعقيب الثاني فقد اثبت كاتبه انه خبير في فنون المراوغة الفكرية‏!‏

ولولا
أهمية كل من موضوع التقييم التاريخي للناصرية‏,‏ وثوابت الأمن القومي
المصري ما عنيت بالرد‏,‏ لأنني اعتبر ان ما اكتبه مجرد اجتهادات لباحث
علمي تحتمل الخطأ وتحتمل الصواب‏,‏ ومن حق اي قاريء او كاتب ان يوجه لها
ما شاء من انتقادات‏,‏ بشرط ان تتحلي بالعلم والموضوعية معا‏.‏

وقد
قابلت الاستاذ محمد يوسف لأول مرة في احدي الجلسات التي رأستها في ندوة
نظمتها لجنة الدراسات التاريخية‏,‏ بالمجلس الأعلي للثقافة واكتشفت فيه
محاضرا فصيحا يتحدث عن الناصرية بثقة لاحدود لها‏,‏ وان كان ـ بالرغم من
بلاغة خطابه ـ ينطلق من تقديس الناصرية‏,‏ ويدافع عن ممارساتها حتي
الخاطئة منها دفاعا مطلقا‏,‏ بحيث تحولت من ايديولوجية سياسية يسري عليها
مايسري علي باقي الايديولوجيات من تجاوزات احيانا أو اخطاء قاتلة‏,‏ أو
سلبيات ظاهرة إلي ايديولوجية مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من
خلفها‏!‏

ماذا قال التعليق الأول؟
من
بين الاحكام الجارفة الظالمة في مجال التقييم التاريخي للرئيس أنور
السادات ـ علي سبيل المثال ـ انه سلم فيها تاريخ وتراث ولغة وآمال مصر
والأمة العربية إلي أمريكا لتفعل بذلك كله ما تشاء دون معقب‏!‏

أهكذا
يقيم انجاز انور السادات وأهمه علي الاطلاق قراره التاريخي بشن حرب
التحرير علي إسرائيل‏,‏ وعبور خط بارليف المنيع‏,‏ بناء علي تخطيط
استراتيجي رفيع المستوي‏,‏ والاعتماد علي اعظم الكفاءات العسكرية المصرية
التي حققت ومعها طوائف الشعب المصري الانتصار علي الدولة الاسرائيلية في
حرب أكتوبر المجيدة عام‏1973‏ ؟

وأهم من ذلك كله انه حقق بالتفاوض
الفعال ما لم تحققه الحرب‏,‏ وهو جلاء القوات الإسرائيلية عن سيناء التي
حررتها المعاهدة شبرا شبرا‏,‏ وبعد ذلك حصلنا علي طابا وهي مصرية تماما من
خلال التحكيم في عهدالرئيس حسني مبارك‏.‏

غير ان التعصب
الايديولوجي للناصرية من ناحية‏,‏ والكراهية العميقة التي يكنها الناصريون
للسادات من ناحية اخري‏,‏ دفعت به للأسف إلي تجاهل الحقائق التاريخية‏,‏
واهمها ان تخبط القيادة السياسية الناصرية في القرارات الخاصة
بيونيو‏1967,‏ وفساد القيادات العسكرية التي اختطفت منذ عام‏1964‏ النظام
السياسي المصري‏,‏ واصبحت لها اليد العليا في القرار مما ادي إلي الهزيمة
النكراء في يونيو‏1967‏ في حين ان القوات المسلحة المصرية لم تكن علي وجه
الاطلاق مسئولة عن الهزيمة‏.‏

ومن يراجع القرارات المتخبطة للمشير عبدالحكيم عامر واعوانه قبل الحرب وفي اثنائها سيصل إلي هذه النتيجة بكل موضوعية‏.‏

وقد
تعجبت لأن الاستاذ محمد يوسف اراد عامدا متعمدا ان يلغي الإنجازات الفكرية
والسياسية للقوي الوطنية قبل ثورة‏1952,‏ ويدعي انها لم تقدم اي شيء
ايجابي‏,‏ وان الثورة فقط هي التي اخترعت من عندياتها المباديء الستة
الشهيرة لها مع انها لم تكن ـ وهذا ما يشرفها في الواقع ـ إلا انعكاسا
للفكر النقدي المصري قبل الثورة والذي قام به طلائع المثقفين المصريين من
أهل اليمين وأهل اليسار معا‏!‏

ومن اعجب العجب ان يدعي الكاتب ان
ثورة يوليو حققت الديمقراطية كاملة لأنها ركزت علي العدل الاجتماعي‏,‏
وتناسي الحقيقة وهي ان الدولة الناصرية تحولت منذ عام‏1964‏ علي الأقل إلي
دولة بوليسية‏,‏ تفرض انواعا متعددة من القمع السياسي علي الجماهير‏,‏
بحكم مراكز القوي التي صعدت وتناحرت فيما بينها‏.‏

اما هجومه علي
الديمقراطية الغربية علي اساس انه في ظلها قام الاستعمار فهو محاولة لخلط
الاوراق‏,‏ وذلك لأن الظاهرة الاستعمارية وان قامت بها دول ديمقراطية‏,‏
فإن ذلك لايعني بالضرورة ان نظرية الديمقراطية الغربية فاسدة بطبيعتها‏,‏
وان الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم هي الديمقراطية علي الطريقة
الناصرية‏!‏

لم يستطع الاستاذ محمد يوسف ان يمارس فضيلة النقد
الذاتي‏,‏ وان يراجع مواقفه‏,‏ كما راجعت موقفي بعد ان كنت اتبني قيم
المشروع الناصري علي إطلاقها‏,‏ غير اني ادركت بعد ذلك انه لا عدالة
اجتماعية دون ديمقراطية وبالمعني الغربي للكلمة‏,‏ اي تداول السلطة‏,‏
وحرية التعبير‏,‏ وحرية التفكير‏,‏ وحرية التنظيم‏,‏ والتعددية الحزبية‏,‏
والانتخابات الدورية النزيهة‏.‏

لقد شابت التعليق السياسي الأول
عيوب التعصب الايديولوجي الذي لايقبل انصاره مراجعة افكارهم بناء علي
الخبرة التاريخية‏,‏ وضرورة ممارسة النقد الذاتي‏.‏

اما صاحب
التأملات الحزينة الذي ادار حوارا حول السيد حسن نصر الله وحزب الله
والمقاومة والأمن القومي المصري‏,‏ فقد كان كريما معي في الواقع لأنه
تلطفا لم يذكرني بالاسم‏,‏ واكتفي بأن يطبق في حواره بعبقرية فذة كل
اساليب المراوغة الفكرية‏!‏

وقد اقتدي في الدفاع عن جريمة حزب الله
في انشاء خلية لوجيستية في سيناء بأمر مباشر من السيد حسن نصر الله ـ وفق
اعترافه العلني في خطاب له ـ اسلوب كاتب مرموق من انصار تيار الإسلام
السياسي‏,‏ الذي لايؤمن بقدسية الحدود المصرية‏,‏ ويري ضرورة فتحها
وتجاوزها لاي عابر سبيل باسم المقاومة‏!‏ فقد قال إن ما فعله السيد حسن
نصر الله غايته نبيلة‏,‏ غير ان وسيلته كانت خاطئة‏!‏

فلنر الآن حكاية الغايات الثورية النبيلة‏!‏
ان
مقالتي عن خريطة معرفية للأمن القومي المصري الذي ادار الكاتب الثاني
حواره معي حولها‏,‏ كانت محاولة اكاديمية للتعريف العلمي الدقيق بنظرية
الأمن القومي عموما‏,‏ وبثوابت الأمن القومي المصري خصوصا‏.‏

ولذلك
لايصلح الكتاب الهواة الذين لايعرفون ابجديات الدراسة الاستراتيجية
للتعليق عليها‏,‏ خصوصا حين يدفعهم الهوي للدفاع الباطل عن جريمة حزب
الله‏,‏ والخطأ السياسي الذي ارتكبه السيد حسن نصر الله‏.‏

ومن
العجيب ان يلفت نظرنا إلي ان إسرائيل هي العدو الرئيسي لنا‏,‏ ومن انكر
ذلك؟ عليه ان يعيد قراءة مقالي عن الأمن القومي الذي ذكرت فيه عدة مرات ان
إسرائيل احد مصادر التهديد للأمن القومي المصري‏,‏ واريد ان اقرر له ما
لايعرفه علي وجه الاطلاق وهي ان هذه هي العقيدة العسكرية المصرية حتي
اليوم بالرغم من المعاهدة لو كان يعرف ماذا تعني العقيدة العسكرية‏.‏

وهو
في دفاعه عن حزب الله يتناسي في الواقع ثوابت الوطنية المصرية التي لاتقبل
المساس بحدود مصر‏,‏ ويتجاهل ابجديات الأمن القومي المصري ويتحدث وكأن
سيناء ارض مستباحة لاي دعي يرفع شعارات المقاومة‏,‏ ولو كان لبنانيا أو
سوريا أو عراقيا أو يمنيا علي سبيل المثال‏,‏ وذلك لمساعدة الفلسطينيين في
غزة‏.‏

كيف يمكن قبول هذا المنطق المتهافت؟
بل
لقد وصلت به استهانته بالأمن القومي المصري إلي ان يقترح سيناريو لم يدرك
ـ للأسف الشديد ـ انه سيناريو إسرائيلي لاعتبار سيناء هي الوطن البديل
للفلسطينيين وهي فكرة قديمة‏.‏

قال سيادته بالحرف الواحد العرف
الدولي ان تفتح دول الجوار حدودها للشعوب المنكوبة من الحروب أو الكوارث
الطبيعية وتستقبلهم وتنظم لهم مستعمرات ايواء حتي تنتهي الاسباب‏..‏ اما
ان تقفل دولة حدودها علي هؤلاء المساكين بحجة الأمن القومي فان هذه سابقة
مشينة ولا أخلاقية والمحزن ان هذه السابقة تخرج من مصر وضد شعب عربي شقيق
وحليف‏.‏

وهكذا وصلت المراوغة الفكرية للكاتب إلي ان يقترح فتح
الحدود المصرية أمام جحافل الفلسطينيين‏,‏ واقامة مستعمرات ايواء لهم إلي
ان ينتهي الصراع العربي ـ الفلسطيني ولو بعد اربعين أو خمسين عاما‏!‏

أليس هذا هو السيناريو الإسرائيلي للوطن الفلسطيني البديل؟
ونقول
لهؤلاء المتعصبين ايديولوجيا‏:‏ الحقائق عن نقص الديمقراطية في العصر
الناصري مسجلة موضوعيا‏,‏ اما المراوغون فكريا فلديهم مشكلة كبري وهي ان
المسلمات التي قد يصدرون عنها من باب الحماس العاطفي أو عدم المعرفة‏,‏ أو
انكار الثوابت الوطنية‏,‏ قد توقعهم ـ كما حدث ـ في براثن الفكر
الإسرائيلي العنصري بغير ان يشعروا‏,‏ ولذلك يروجون لفكرة الوطن البديل
التي تعني في الواقع الاستعمار الفلسطيني لسيناء المصرية‏!‏