شـق النهـار‏(18)‏ ضفـة المسـاء الأخري بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف الجارح السبت مايو 23, 2009 6:19 pm

شـق النهـار‏(18)‏ ضفـة المسـاء الأخري
بقلم : أسامة أنور عكاشة

...‏
وقد مضت الأسابيع تتري ونهير لا تسمع حسا ولا خبرا وبعد أن قطعت في بحثها
مسافات لم تكن هي لتتخيل يوما أنها ستقاربها‏,‏ أحست بدبيب اليأس يتسرب
الي قلبها وبات غياب شوقي لغزا مطويا ولم تفلح في تحويله الي قضية رأي عام
حتي بعد أن ذهبت بالقصة الي صحف المعارضة والمنابر المستقلة‏,‏ وكانت قد
قررت ألا تعاود الاتصال بقريبها صاحب المنصب الكبير بعد أن واجهها في
اتصال تليفوني بلهجة تحمل الكثير من الجفاء والتبرم

ـ أنصحك أن تنسي أمر صاحبك هذا‏,‏ فهو متورط في قضية تمس أمن الدولة ولا يستطيع أحد أن يفعل له شيئا فلا تسأليني عنه مرة أخري‏!‏

ما يحيرها حقا هو أن صورة شوقي كما عرفته تتناقض تماما مع ما يوحي به الآخرون إليها عن حقيقة كانت تسكنه ولم ترها هي‏..‏ أي حقيقة؟
الرجل
كان أوضح من كتاب مفتوح في عز ضوء النهار‏,‏ بل كان جزءا من اعجابها به
وانجذابها إليه هو تلك البراءة التي افتقدتها في غيره وكثيرا ما خلت الي
أقرب صديقاتها وحدثتها عنه بفرحة تلمع في عينيها وهي تؤكد لها أنها عثرت
أخيرا علي الرجل المثال الذي طالما حلمت به حتي أمها التي فوجئت بحماس
نهير‏..‏

ـ هل صارحته بمشاعرك هذه؟
كلا
يا أمي‏,‏ فليس من طبعي أن أبادر وتجربتي القاتمة مع الرجل السابق قد
أفقدتني القدرة علي اطلاق العنان لمشاعري كما لو كنت أخشي لو عبرت عنها أن
أبدو في نظره رخيصة سهلة المنال ثم أننا مازلنا نتلمس أول الطريق يقترب
أحدنا من الآخر بحرص‏,‏ فمثلي كان بدوره يحمل ندوب جراح سابقة ويخشي من
الارتباط ما أخشاه ويبدو أننا بالغنا في التمهل حتي ولت الفرصة وفقدته‏.‏

قاومت
بكل ما تملك من قوة نفسية الاستسلام لفكرة الفقد وكانت لا تريد أن تصدق ما
يقال لها انه‏(‏ راح وراء الشمس‏)‏ حتي جاءها الشيخ عادل بآخر ما توصل
إليه في البحث عن ابن خاله‏..‏ يبدو والله أعلم أن شوقي كان يخدعنا جميعا
وكان عضوا في تشكيل شيعي ويقال بل شيوعي وآراء أخري تقول إنه كان عضوا
بجماعة سلفية‏,‏ اختلفت الآراء ولكنها أجمعت علي حقيقة انتمائه لعمل سري
من نوع ما‏,‏ كانت نبرة الشيخ عادل ترتجف بإحساس حقيقي بالأسي والحزن
وأردف مكملا‏:‏

ـ ما يفجعني حقا أنني ظننت نفسي أقرب الناس إليه
وانني بمثابة شقيقه البديل ولا أتصور أبدا أن يخفي عني مثل هذا الأمر‏,‏
كان كل منا هو مستودع أسرار صاحبه وكنت أعرف عنه وبلسانه هو أدق تفاصيل
حياته حتي تطورت العلاقة بينه وبين زوجته ـ أقصد مطلقته ـ وكيف تدهورت عبر
السنوات حتي انهارت‏.‏ كان من أسوان يراسلني ويهاتفني ويكشف لي عن متاعبه
وأحزانه وكيف أنه يفكر في الطلاق منذ زمن لولا طفلاه‏,‏ وكنت بدوري أكاشفه
بكل أحوالي وضيقي بالعالم الذي لا أراه وبالناس الذين تخادعني أصواتهم
فكيف؟ كيف تكون منغمسا في نشاط سياسي تحت الأرض ولا يحدثني عنه؟ بل كيف
عجزت أنا عن الإحساس به؟‏..‏

تعلمين ان من كان مثلي يتمتع بنوع من
الرادار التعويضي يكون بمثابة حاسة خاصة كالحواس الاستثنائية التي يخص بها
المولي سبحانه وتعالي البعض من خلقه‏!‏ هل أصابني عماها هي الأخري؟

تهدج صوته حتي ليوشك علي البكاء‏,‏ كانت نهير تسمعه بأذن وأذنها الأخري تسمع أصواتا أخري بداخلها‏.‏

ـ
من يكون هؤلاء الذين أجمعوا علي اتهام شوقي؟ المنطق يقول إنهم من رجال
مباحث أمن الدولة‏..‏ فما هي علاقة الشيخ عادل بهؤلاء‏,‏ تراقص السؤال في
خاطرها ثم ولي هاربا وانتبهت لكلمات عادل الأخيرة الباكية‏!..‏ نازعة من
تلك النوازع الكامنة في أعماق النفس البشرية جعلتها لا تشفق علي الرجل بل
بادرته بسؤال‏:‏ ألا يتم التحقيق مع الشخص المنتمي لتنظيم سري معاد للنظام
ثم يقدم الي المحكمة التي تبرئه أو تدينه؟

ـ هذا هو المفترض ولكنك لا تعرفين ماذا يحدث في كواليس السياسة وما ينتهجه أي نظام في التعامل مع أعدائه‏!‏

ـ
تريد مني أن أصدق أن شوقي عدو للنظام؟‏..‏ شرفت ياشيخ عادل وانفلتت تخرج
بعصبية لا مبرر لها بينما تجمد الرجل في مكانه وابتردت الدنيا حوله وأحس
برجفة من انتقل في لحظة من خط الاستواء الي القطب الشمالي فيم أزعجتها؟
وظل السؤال يتأرجح مع خطواته ودقات عصاه وهو يخرج متعثرا علي الممشي
المؤدي لخارج سراية الباشا‏.‏

عمرها لم تتصرف مع إنسان بهذا الشكل
ولم يسبق لها أن وجهت مثل هذه الطعنة لأبغض الناس إليها حين هرعت الي
غرفتها تسبقها دفقات ندم مرير تسد عليها كل منافذ التفكير‏.‏
‏
..‏ لماذا فعلت بالشيخ عادل ما فعلته؟
كانت
تعلم جيدا ما يكنه لها الرجل من مشاعر‏,‏ فهل تصورت في عقلها الباطن أنه
جاء اليوم خصيصا ليفقدها الأمل في عودة شوقي المظلوم ضحية الملابسات
الغبية وليخبرها أنه حتي لو عاد فسيعود شخصا مدفوعا بالعداء للنظام يحمل
الخطر ليظلل به حياة كل من يرتبط به أو ينتمي إليه؟

هل كرهت أن
يجسد الشيخ عادل أمامها خداع شوقي لها حين لم يصارحها بحقيقة انتماءاته
السرية؟ لن يكون هذا من المنطق في شيء فكيف يصارحها شوقي بأمر علي هذا
القدر من الخطورة وهما مازالا علي مشارف الطريق؟ إن أركان الخداع لا
تتوافر هنا ومن المؤكد أنه كان سيصارحها حتما عندما يحين موعد
الارتباط‏..‏ ويحك يا نهير‏..‏ أصدقت أنت أيضا حكاية انتماء شوقي
السري؟‏..‏ إذن فليمت قيصر‏!‏