مصطفي حجازي‏..‏ وكتاب المنازل والآثار بقلم : فاروق شوشة

من طرف منة الله الأحد مايو 24, 2009 5:58 pm

مصطفي حجازي‏..‏ وكتاب المنازل والآثار
بقلم : فاروق شوشة

هذا
كتاب بديع وأثر أدبي نفيس سعدت بقراءته عند صدوره لأول مرة منذ سنوات عدة
وهأنذا أعود إليه الآن بمناسبة صدوره في طبعة جديدة ـ عن الهيئة المصرية
العامة للكتاب ـ ولايزال عبق القراءة الأولي يملأ نفسي وأنا أتقلب بين
متعتين‏:‏ الكتاب نفسه‏,‏

ومايضمه من أشعار جمعها الشاعر الفارس
أسامة بن منقذ الذي عاش بين العامين الهجريين‏488‏ و‏584‏ علي سبيل التأسي
بما قاله الشعراء قبله في بكاء المنازل والديار والوقوف علي الدمن
والأطلال ومجموعها نحو خمسة آلاف بيت من جيد الشعر العربي‏,‏ الأمر الذي
يجعل من الكتاب واحدا من كتب المختارات الشعرية الموضوعية وحلقة في سلسلة
الكتب التي تشبهه في هذا النهج مثل كتب الحماسة وكتب الأماني ونحوها‏.‏

أما
مناسبة تأليف الكتاب وجمع مايتضمنه من أشعار فحدوث زلزال هائل نكب به
الجزء الشمالي من سوريا سنة‏552‏ هـ دمر فيما دمر قلعة شيزر التي كانت
قاعدة ملك بني منقذ وأميرها ـ يومذاك ـ ابن عم لأسامة بن منقذ هو تاج
الدولة محمد بن سلطان‏..‏ ومات في هذا الزلزال جميع أسرة الأمير ـ ماعدا
زوجته ـ وكانوا مجتمعين في مناسبة وليمة دعوا إليها جميعا لدي الأمير أما
أسامة فكان بعيدا عن شيزر فنجا من الموت لكنه ـ

كما يقول محقق
الكتاب الأستاذ مصطفي حجازي‏,‏ عضو مجمع اللغة العربية ـ لم يسلم من الأسي
والحسرة اللذين أعقبتهما هذه الفاجعة التي أودت بأسرته وتركت في نفسه أثرا
عميقا جعله يحشد في كتابه أحزان من سبقه من الشعراء الذين بكوا ديارهم
وأطلالها‏,‏ ومنازلهم ورسومها ومعاهدهم وربوعهم لعلها أن تكون مسلاة لنفسه
المكلومة وقلبه الجريح الذي تفجر في شعر أسامة نفسه بأروع النغمات الحزينة
في قصيدة مطلعها‏:‏
حمائم الأيك هيجتن أشجانا
فليبك أصدقنا بثا وأشجانا

لم يترك الدهر لي من بعد فقدهمو
قلبا أجشمه صبرا وسلوانا

فلو رأوني لقالوا‏:‏ مات أسعدنا
وعاش للهم والأحزان أشقانا

لم يترك الموت منهم من يخبرني
عنهم فيوضح ما لاقوه تبيانا

أما
محقق الكتاب شيخ المحققين الأستاذ مصطفي حجازي فهو رأس مدرسة في التحقيق
اكتملت سماتها وملامحها علي مدي قرابة نصف قرن من خلال تحقيقه لتاريخ
اليمن المسمي بهجة الزمن لعبدالباقي بن عبد المجيد اليماني وعشرة أجزاء من
تاج العروس بتكليف من وزارة الاعلام بدولة الكويت‏,‏ وثلاثة أجزاء من
المحكم في اللغة لابن سيده صدرت عن معهد المخطوطات العربية‏,‏

كما
شارك في تحقيق كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري الصادر عن الهيئة
العامة للكتاب‏,‏ بالاضافة إلي مراجعته وتدقيقه لتحقيق عدد من الكتب من
بينها منال الطالب في طوال الغرائب لابن الأثير و أدب الطيب لإسحاق بن علي
الزهاوي‏,‏ وخلق الانسان في اللغة لأبي محمد الحسن بن عبدالرحمن وخمسة
أجزاء من تاج العروس‏.‏

والأستاذ مصطفي حجازي ـ بالإضافة الي
عضويته في مجمع اللغة العربية ـ هو مقرر لجنتي المعجم الكبير ولجنة احياء
التراث بالمجمع ومقرر اللجنة اللغوية في تحديث المعجم الوسيط‏,‏ كما أنه
صحب المعجم الكبير‏,‏ منذ الدورة المجمعية التي رسمت فيها خطته‏,‏ ووضع
منهجه عام‏1961‏ فكان المحرر الأول له ثم صار رئيسا للتحرير‏,‏ فمديرا
عاما للمعجمات واحياء التراث قبل أن يختاره المجمع عضوا عاملا فيه
عام‏1992.‏

وخير مايوصف به منهج الأستاذ مصطفي حجازي في التحقيق هو
ماقاله الأستاذ علي النجدي ناصف ـ عضو المجمع الأسبق ـ عنه‏:‏ لغوي متمرس
يصحب اللغة ويكب علي النظر فيها درسا وبحثا وإعدادا وإشرافا وقد آتي
الحواشي من جهده وخبرته كل ماتقتضيه دواعي الاجادة والاتقان تحريرا للنص
وضبطا لمفرداته وتخريجا لشواهده في تتبع لا قصور معه ولا اكتفاء‏..‏

وماقاله
عنه الأستاذ ابراهيم الترزي ـ الأمين العام الأسبق للمجمع ـ أهلته أناته
إلي أن يلج عالم اللغة بخطي مطمئنة‏,‏ وأن يتعرف تراثها في مثابرة
ومصابرة‏,‏ وأن يعرك معاجمها القديمة حتي لانت عريكتها له فصارت له باللغة
صلة حميمة غريبها لديه مألوف وبعيدها منه قريب فكأن بعقله جهاز استشعار
لغويا‏,‏ فهو يدرك أين تكمن المادة اللغوية في بطون المعاجم وأين يستدعي
الشاهد من دواوين الشعراء‏.‏

وهي كلمات توضح ماقام به الأستاذ
مصطفي حجازي في تحقيقه لكتاب المنازل والديار لأسامة بن منقذ في تفسيره
الألفاظ الصعبة حين يكفي هذا التفسير لفهم المعني المراد وشرح مايصعب فهمه
من الأبيات شرحا موجزا‏,‏ والعناية بتحديد المواضع والبلدان في ثنايا
النصوص‏,‏ بالاضافة الي وضع فهارس للكتاب تشتمل علي القوافي وبحورها
والأعلام الواردة فيه والبلدان والمواضع وما إليها مما يحرص عليه المنهج
الحديث في التحقيق‏.‏

ويبقي الشكر لمن هيأ
هذا الكتاب النفيس في صورته المحققة المنضبطة ليكون بين أيدي قراء هذا
الزمان من شداة الشعر العربي ودارسيه وجعلنا نردد قول أسامة‏:‏
تقول لي الأشواق‏:‏ هذي ديارهم
فقلت‏:‏ نعم لكنها منهمو قفر

وماكنت أهوي الدار إلا لأهلها
وبعدهمو لا جاد ساكنها القطر

فما الدار تلك الدار بعد قطينها
ولا الدهر فيها بعدهم ذلك الدهر