الشعر والنثر‏..‏ والشعر في النثر بقلم : د‏.‏علاء عبدالهادي

من طرف bobo الأحد مايو 24, 2009 6:00 pm

الشعر والنثر‏..‏ والشعر في النثر
بقلم : د‏.‏علاء عبدالهادي

أود
في بداية هذا المقال أن افترض أن القديم ليس هو الأصيل بالضرورة‏!‏ وهذا
ما قد تنم عنه عبارة ابن قتيبة إني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر
السخيف لتقدم قائله‏,‏ ويضعه في متخيره‏!‏ كما يشير إلي الأمر ذاته تأويل
ممكن لعبارة القاضي الجرجاني حين قال لولا أن أهل الجاهلية جدوا
بالتقدم‏,‏ واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة‏,‏ لوجدت كثيرا
من أشعارهم معيبة مسترذلة‏,‏ ومردودة منفية‏,‏ لكن هذا الظن الجميل‏,‏
والاعتقاد الحسن ستر عليهم‏,‏ ونفي الظنة عنهم‏,‏ فذهبت الخواطر في الذود
عنهم كل مذهب‏,‏ وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام‏!‏

تمارس تقاليد
الأنواع الأدبية القارة علي معظم الكتاب ضغطا علي شكول كتاباتهم‏,‏ فغالبا
ما تخضع الكتابات الممكنة بالنسبة إلي عصر معين‏,‏ لهيمنة التاريخ
والتقاليد‏,‏ أما القارئ فينبغي في أثناء قراءته لنص ما‏,‏ أن يعرف‏,‏
موروثه الصنفي‏,‏ وأن يكون ماهرا في فرز عناصره التي تشير إلي انتمائه
النوعي‏,‏ سواء من خلال توقع حضورها‏,‏ أو ملاحظة غيابها‏,‏ ومما لاشك فيه
أن ما يسمي بالنثر الفني في أدبنا العربي كان سببا في اضطراب عدد من
الآراء حول الشعر والنثر والعلاقة بينهما‏,‏ فكثر ما دخل النثر الفني في
فضاء الشعرية وأمثلة هذا في تراثنا العربي كثيرة‏.‏

تتيح لنا
العلاقة المضطربة بين الشعر والنثر أن ننظر بطريقة جدلية إلي المشكلات
الخاصة بالحدود الفاصلة بينهما‏,‏ وهنا تبدو لنا مفارقة تثير الفضول‏,‏
ذلك أن النظر إلي الشعر والنثر في قضايا النوع الأدبي‏,‏ بصفتهما بناءين
مستقلين تماما‏,‏ قابلين للوصف دون الإشارة إلي العلاقة المتبادلة
بينهما‏,‏ يضع الشعر مقابل النثر‏,‏ والصحيح أن ما يجب وضعه أمام الشعر هو
اللاشعر‏,‏ وليس النثر‏,‏ ذلك لأن النثر ليس ضدا للشعر‏,‏ إذ إن الباحث
حين يصطدم بوفرة الأشكال الفنية المتوسطة بين طرفي ما يسمي الشعر بسبب
وزنه وقافيته‏,‏

وما يسمي النثر لخلوه من القافية‏,‏ يكون مضطرا
إلي أن يستنتج أن إقامة الحدود القاطعة بينهما‏,‏ أمر غير ممكن علي وجه
العموم‏,‏ هذا بالإضافة إلي أنه علي الرغم من أننا نطلق غالبا مصطلح النثر
علي لغة الحديث العادي‏,‏ فإن النثر ليس هو لغة الحديث العادي‏,‏ فالشعر
والنثر ليس ضدين مثل الشعر واللاشعر‏,‏ ولكنهما قطبان جماليان‏,‏ فمن
المشروع أن نتحدث عن ظواهر أكثر نثرية أو أقل‏,‏ وعن نصوص أكثر شاعرية
أوأقل‏,‏ سواء فيما اعتدنا علي تسميته شعرا بسبب إيقاعه‏,‏ أو ما اعتدنا
علي تسميته نثرا بسبب خلوه من السمات التقليدية النسبية السائدة للإيقاع
الشعري التقليدي في تراثنا العربي‏.‏

ويظل للنص الشعري بنية لها
خصوصيتها‏,‏ وتعقيدها دون منازع‏,‏ بصرف النظر عن قالبها العروضي‏,‏ أو
قالبها النثري‏.‏ واستشهد هنا باقتباس دال من حديث للكاتب الأرجنتيني
بورخيس‏(1899‏ ـ‏1986)‏ يقول فيه‏:‏ إن هناك اعتقادا بأن النثر أقرب إلي
الواقع من الشعر‏,‏ ويبدو لي أن هذا الاعتقاد خاطئ‏,‏ ثمة فكرة تنسب إلي
القصاص هوراسيو كيروجا يقول فيها إنه إذا هبت ريح باردة من جهة الساقية‏,‏
فيجب أن نكتب مباشرة‏:‏ ريح باردة تهب من جهة الساقية‏.‏ إذا كان كيروجا
قال ذلك فعلا فيبدو أنه نسي أن هذه التركيبة اللغوية بعيدة عن واقعها‏,‏
إننا نخلق بنية نحوية في ظرف واقعي‏,‏

فهذه الجملة التي تبدو نثرية
ظاهرا وعمدا التي اختارها كيروجا بابتذال‏,‏ هي جملة معقدة إنها بنية‏,‏
فللنص الشعري بنية‏,‏ لا يحددها شكل اللغة فحسب بل يحددها المعني الشعري
أيضا‏,‏ ذلك لأن محك الشعر يؤكد دائما أن البيت قائم في ما وراء المعني‏,‏
هكذا أصبح لما نسميه المعني الشعري‏,‏ في النصوص الشعرية الجديدة‏,‏ دور
مهم‏,‏ وبالغ الدلالة في الإشارة إلي النوع‏.‏

يشير الناقد الروسي
يوري لوتمان‏1922‏ ـ‏1993‏ إلي هذه النتيجة قائلا إنه في داخل كل قاريء
شعر‏,‏ قاريء نثر‏,‏ والجهد المبذول في جعل نص شعري قصيدة‏,‏ يتطلب زيادة
في الطاقة التي تفيض عن افشال التأويلات غير الشعرية‏,‏ وهذا يعني أنه في
مكنة القاريء أن يعيد صوغ أي شفرة في النص‏,‏ سواء كان ذلك علي المستوي
النحوي‏,‏ أو المعجمي‏,‏ أو النوعي‏,‏ ولاشك في أن هذا الجهد هو عمل
إنتاجي يغني التأويل‏,‏ وينشيء العلاقة بين النص النثري‏,‏ والقصيدة‏,‏
هكذا يوجد الشعر فيما نسميه نثرا‏,‏ ويوجد فيما اعتدنا علي تسميته بسبب
وزنه وقافيته شعرا‏,‏ ولا يوجد في الاثنين أيضا‏!‏

فإذا ما أمعنا
النظر إلي واقعنا الشعري العربي في العقود الثلاثة الأخيرة‏,‏ وجدنا أن
الخطاب الشعري العربي التجريبي بخاصة الذي انحاز اختيارا إلي قصيدة
النثر‏,‏ والذي جرب الكتابة في بداياته علي القالب العمودي‏,‏
أوالتفعيلي‏,‏ لم يتحل بأي تراجع أمام القوي الإبداعية التقليدية‏,‏ وكرس
لشعرية الاختلاف‏,‏ فاستبدلت طليعة المشروع العربي الإبداعي المعاصر‏,‏
السبعيني‏,‏ والثمانيني بخاصة بالشفاهة‏/‏ الكتابة‏,‏ وبالواحدية‏/‏
التشعب‏,‏ وبالنظام‏/‏ المصادفة‏,‏ وبالاتفاق‏/‏ التناقض‏,‏ وبالنقاء‏/‏
التجاور‏..‏ إلخ‏.‏ وقد ظهر هذا في أعمال حاولت ايجاد مساحات جمالية تجاوز
التراكم الجمالي الموروث‏,‏

فكانت قصيدة النثر ملجأ رحبا لعدد من
شعراء التجديد في حركة تطور الشعر العربي المعاصر‏,‏ الأمر الذي يطرح علي
شعرنا دائما سؤال التجديد‏,‏ وهو سؤال تحمل إجابته الآن التجليات القوية
لقصيدة النثر العربية المعاصرة‏,‏ التي أصبح حضورها قويا في مشهد الشعر
العربي الحديث‏,‏ كما وكيفا‏,‏ لكنها ـ في‏,‏ النهاية ـ لن تستطيع الهرب
من قدرها الذي سيجعلها لا محالة‏,‏ مرحلة تاريخية أخري من مراحل تطور
شعرنا العربي‏,‏ يتم مجاوزتها‏,‏ علي نحو أكيد‏,‏ إلي مرحلة جديدة أرحب‏,‏
ويظل الخطأ دائما كامنا في اعتقادنا أن مفهوم الشعر تحدده تجلياته
التاريخية فحسب‏,‏

ذلك لأن قواعد نوع ما‏,‏ مثل الشعر‏,‏ لا يمكنها أن تسبق تجلياته النصية‏,‏ والشعر ليس أصل الشعر‏!‏