عكاشة في سوناتا لتشرين بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

من طرف lzeem الإثنين يونيو 08, 2009 1:22 pm

عكاشة في سوناتا لتشرين
بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

ؤفي
مقدمة الطبعة الثانية لروايته الممتعة الجديدة سوناتا لتشرين يعترف أمير
الدراما التليفزيونية‏,‏ أسامة أنور عكاشة‏,‏ أنه حافظ علي عشقه القديم
للأدب الروائي‏,‏ إذ يتيح له أفقا أوسع من حرية الإبداع والتخيل‏,‏ لا
ترقي إليه الفنون المرئية‏,‏ علي الرغم من انتشارها الكاسح‏,‏ وقفزها علي
حواجز الأمية‏,‏ غير أني أحسب أن هناك أسبابا أخري لتشبث الكاتب الكبير
بأصوله الأدبية‏,‏

من أهمها أنها علي وجه التحديد هي التي ضمنت له
ارتفاع مستوي إبداعه الفني حتي يحتل ذروة الهرم بفضل منظومة قيمه الجمالية
والانسانية‏,‏ وإن كانت قد تركت أثرها الدامغ علي كتابته الروائية‏,‏
فتقسيم الرواية إلي فصول متساوية في القطع والمساحة‏,‏ تبلغ ثمانية وعشرين
فصلا‏,‏ من المظاهر التشكيلية لهذا الأثر‏,‏ إضافة إلي حركية مشاهد كل
فصل‏,‏

بما تقتضيه من انتقال مكاني يتبعه تحول في اتجاه الأحداث
وتنوع المواقف‏,‏ والتوازي الدقيق بين الافكار والمشاعر الباطنية من
ناحية‏,‏ وضرورة ترجمتها الخارجية في سلوك منظور من ناحية أخري‏,‏ فضلا عن
هذا الاستقلال المشروط لكل فصل‏,‏ مثل حبة العقد التي تمتلك كيانها
المتفرد‏,‏ وتنتظم في سلك متوالية مترابطة في الآن ذاته‏,‏ كل ذلك تحكمه
مخرطة الكتابة الدرامية المضبوطة علي هذه المقاييس‏.‏

والكاتب يشف
عن هذا الولع الأدبي بطرائق أخري‏,‏ تتجلي في تمثله بالشعر‏,‏ فيجعل صاحبه
المتمرس في بدء تسجيله لتجربة حياته صوتيا يستحضر أبيات نزار قباني‏:‏

علي دفتر‏..‏ سأجمع كل تاريخي علي دفتر

سأرضع كل فاصلة‏..‏ حليب الكلمة الأشقر

سأكتب‏..‏ لا يهم عن‏..‏ سأكتب هذه الأسطر

فحسبي أن أبوح هنا‏..‏ لوجه البوح‏..‏ لا أكثر

وتصطبغ
لغته في الكتابة بعبق شعري يضوع في أسلوب بليغ لا يمكن ارتجاله عند تسجيل
مذكرات صوتية‏,‏ وقد تضيع منه نسبة الشعر إلي صاحبه كما حدث في تمثله لبيت
جرير‏:‏

إن العيون التي في طرفها حور

قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا

إذ نسبة المؤلف إلي المتنبي وشرحه باستفاضة تشي بولعه بالشعر والأدب وعوالمهما الغنية‏.‏

دراما الصحافة
تقدم
رواية سوناتا لتشرين جوهر الدراما الصحفية‏,‏ متمثلة في طموح كاتب مسكون
بالجرأة والذكاء والرغبة الحارقة في اختراق حصون الفساد‏,‏ في مجتمع تزوج
فيه المال بالسلطة‏,‏ وتفاقمت امبراطوريات رجال الأعمال‏,‏ فنشب صراع غير
متكافئ بين صحفي يهدف إلي بناء مجده المهني بكشف وقائع الفساد وتعقب
ظواهره‏,‏

وبين تحالف خبيث مكون من صاحب المعالي الممثل للسلطة في
تشجيعه الظاهر لهذا الصحفي‏,‏ وتواطؤه المدمر مع الرأسمالي العتيد من
ناحية أخري‏,‏ فدبروا له خطة لاصطياده والقضاء عليه‏,‏ كانت البداية
عبقرية‏,‏ يستدعيك صاحب المعالي‏,‏ وينصحك بلقاء الجرواني رجل الأعمال‏,‏
ومناقشة فيما اتهمته به ليكون رده مكملا لحملتك‏,‏ ويعطيها مصداقيتها‏,‏
ذهبت للموعد‏,‏ حيث استدرجت لتلتقي بالغادة التي سحرتك وقدمت لك نفسها
باعتبارها ذراع مخدومها اليمني‏,‏

وغزلت علي منوال خيالك الرومانسي
خيوط الفراشة الرقيقة التي أوقعها سوء حظها في هالات النور الخارق‏,‏
ليستخدمها الجرواني في مباذله ويقدمها للآخرين قربانا لمصالحه‏..‏ استثارت
الفتاة بمهارة مكامن الفارس المنقذ الذي يلبي استغاثة الأميرة الأسيرة‏,‏
وجاءت مسألة أقراص الكمبيوتر المدمجة التي تحوي كل معاملات الجرواني
وصفقاته المشبوهة في المخدرات وغسيل الأموال وتجارة السلاح‏,‏

وأرقام
حساباته بالبنوك‏,‏ بيانات كأنها حقيقية استدرج الصحفي ليثق بها وينشرها
وينال جزاءه عليها بتعيينه رئيسا للتحرير‏,‏ لكنه يضطر سريعا فور كشف
استقالته‏.‏ وإذا كانت غواية هذه الغادة المتآمرة عليه هي عنصر التحلية في
قلب الخديعة المرة فإن غادة أخري تجيء بعد سنوات‏,‏ وكانت تلميذة قديمة
للصحفي الذي اعتزل عمله ودخل في قلب صدفته علي شاطئ الإسكندرية وتحت
أمطارها المتقطعة هي التي تظهر في الأفق‏,‏

كي تغريه بالتطهر من
تاريخه والعودة لاستعادة نشاطه‏,‏ فتكسو الرواية بطبقة السكر التي تغلفها
من الخارج وتمثل الاطار اللامع الذي تتم فيه الرواية‏,‏ علي أن هناك نقطة
فنية في الرواية تستحق التأمل النقدي‏,‏ وتتمثل في نهاية الفصل العشرين‏,‏
عندما يكتشف الصحفي في تسجيله الذي يمنحه لتلميذته القديمة عن اكتمال
وقائع المؤامرة التي دبرت له وقضت علي مستقبله المهني وأجبرته علي
العزلة‏,‏ مما يعد نصرا لقوي الفساد في المجتمع‏,‏ ممايجعل القارئ يتساءل
عن مدي أهمية الفصول الثمانية التي تحكي ما بعد الذروة الدرامية من أحداث
لا تغير كثيرا في طبيعة الصراع ودلالاته‏,‏

إذ تقتصر علي عودة ظهور
الغادة الأولي ـ مساعدة رجل الأعمال ـ أمامه فجأة في أبهي حللها‏,‏ وتخيله
أنه قد انتقم منها ومحاولة اعترافه بذلك ووقوعه في نوع من الحمي والهذيان
واختلاط الواقع لديه بهلاوس الضغوط النفسية‏,‏ مما يجعلنا نتساءل عن مدي
تنمية هذا الامتداد لمفاصل الأحداث السابقة وتكييفه للنتيجة التي انتهت
إليها‏,‏ إذ يبدو أنه لا يغير كثيرا من واقع انتصار القوي الشرسة علي
الصحفي الطموح‏,‏ اللهم إلا إذا اعتبرنا إصرار الصحفية الشابة‏,‏
تلميذته‏,‏ علي استئناف مسيرته في أداء رسالة من الأمل في الإفادة منها
لتغيير وجه المستقبل‏.‏