إيطاليا في الثقافة المصرية‏(2)‏ بقلم : جابر عصفور

من طرف نسمة الإثنين يونيو 08, 2009 2:21 pm

إيطاليا في الثقافة المصرية‏(2)‏
بقلم : جابر عصفور

ومن
المصادفات الدالة‏,‏ في سياق الإسهام الإيطالي في الثقافة المصرية‏,‏ أن
مصر أكملت الاحتفالات بمرور مائة عام علي إنشاء جامعة القاهرة في ديسمبر
الماضي‏,‏ ويرجع فضل تصميم مباني هذه الجامعة إلي معماريين إيطاليين‏,‏
وذلك بسبب العلاقة الوثيقة التي كانت تصل بين الأمير أحمد فؤاد‏,‏ رئيس
لجنة إنشاء الجامعة‏,‏ والملك فيكتور عمانوئيل الثالث والملكة مارجريت وهو
الأمر الذي أتاح له الحصول علي مساعدات كثيرة أهمها ما حصلت عليه الجامعة
المصرية من الكتب القديمة‏,‏ وقد كانت حكومة إيطاليا أولي الحكومات
الأوربية اهتماما بتكوين المكتبة‏,‏ وتزويد الجامعة بأساتذة من إيطاليا‏,‏
تدفع لهم أجورهم الشهرية دعما للجامعة المصرية‏,‏ وتعبيرا عن عمق المودة
التي يكنها الملك الإيطالي لصديقه الأمير فؤاد‏,‏ وذلك قبيل افتتاح
الجامعة‏.‏

ومن الدال أن نتذكر قيام الأمير أحمد فؤاد برحلة طويلة
في أواخر سنة‏1908,‏ يزور فيها جامعات روما وتورينو وباريس وبرلين‏,‏ كي
يتناقش ومديريها وأساتذتها في كيفية الإدارة الجامعية‏,‏ ويتأمل طرز
العمارة التي تتوافق وطلب العلم الجامعي‏,‏ وتضيف إليه متعة الإحساس
الجمالي بالمكان‏,‏ ولم يكن من المصادفة‏,‏ والأمر كذلك‏,‏ أن تعلن لجنة
الجامعات‏(‏ برئاسة الأمير فؤاد‏)‏ إلي الناس عن إيمانها بأن العلم يسير
مع الفن جنبا إلي جنب‏,‏

وقد تقرر‏,‏ نتيجة ذلك‏,‏ استحضار أحد
الأساتذة البارعين في هذا المجال من إيطاليا التي هي نبع الفنون‏,‏ فيما
أعلنت اللجنة وكانت غايتها من وراء ذلك أن يقف المصريون علي أساليب الأمم
في الفنون الجميلة‏,‏ ويتعلموا درس التقدم من إيطاليا التي هي شبيهة
بمصر‏,‏ من حيث ما لها من تاريخ مجيد‏,‏ فقد كانت إيطاليا مصباحا للمعارف
في قديم الزمان‏,‏ ثم أخنت عليها الأيام‏,‏ فسقطت في الحضيض‏,‏

ولكنها
أفاقت من غفوتها‏,‏ وأخذت بأسباب النهضة العلمية والفنية معا‏,‏ حتي ارتقت
إلي مكانة يغبطها عليها كثير من الأمم‏,‏ فيما تقول اللجنة‏,‏ علي نحو ما
نقرأ في الكتاب الوثائقي المهم الأمير فؤاد والجامعة المصرية وهو كتاب
يكشف عن رغبة اللجنة التي كان يرأسها الأمير في أن تكون الجامعة الوليدة
ساحة للعلم الجديد وفضاء للجمال المعماري في امتداده عبر الحدائق الخضراء
التي تكمل متعة العقل والقلب والروح‏.‏

وطبيعي أن يكون الأساتذة
الجامعيون الإيطاليون هم الجيل الأول من الأساتذة الأجانب الذين تتلمذ
عليهم الخريجون الأوائل من الجامعة المصرية‏,‏ وأهمهم طه حسين الذي كتب عن
فضل سانتلانا في تعريف تلامذته بالفلسفة الإسلامية‏,‏ وفضل جويدي في تدريس
فقه اللغة المقارن‏,‏ وفضل كارلو نللينو في تدريس تاريخ الأدب العربي‏,‏
وقد طالعت محاضراته مطبوعة في كتاب أشرف علي إصداره طه حسين‏,‏ وقدم له في
نوع من الوفاء للأستاذ الذي تعلم منه الدرس المنهجي الأول لدراسة تاريخ
الأدب العربي‏,‏

ولذلك سجل تحت إشرافه الأطروحة الأولي للدكتوراه
في الآداب العربية عن أبي العلاء المعري‏,‏ وكان إلي جانب نللينو جيراردو
ميلوني الذي كان يدرس تاريخ الشرق القديم‏,‏ وقد جاء نللينو من جامعة
باليرمو‏,‏ وميلوني من جامعة روما‏,‏ وكان تحيز الأمير فؤاد للإيطاليين
واضحا في نوفمبر عام‏1908‏ عندما دفع لجنة الجامعة إلي اختيار فاجو
الإيطالي الجنسية ليكون أول مدير لمكتبة الجامعة بمرتب قدره‏144‏ جنيها
سنويا‏,‏ وقد استمر حضور الأساتذة الإيطاليين أعلي من غيرهم من أبناء
أوروبا‏,‏ وبخاصة فرنسا وإنجلترا وغيرهما وظل الأمر علي هذا الحال إلي أن
قامت الحرب العالمية الثانية وتعقدت

الأوضاع السياسية مع صعود
حكومة الدوتشي‏(‏ موسيليني‏),‏ وما ارتكبه الاستعمار الإيطالي من فظائع في
ليبيا التي أعدم علي أرضها الزعيم الليبي عمر المختار في السادس عشر من
سبتمبر سنة‏1931‏ وهو الأمر الذي أدي إلي غضبة شعبية في مصر‏,‏ ودفع
الطلاب المصريين إلي عدم حضور محاضرات أساتذتهم الإيطاليين الذين لم تقم
الجامعة بتجديد عقودهم خوفا من امتداد الغضبة الشعبية‏,‏ وكان من نتيجة
ذلك أن بدأت نسبة الأساتذة الإيطاليين تتناقص لصالح الأساتذة الفرنسيين
والإنجليز بالدرجة الأولي‏.‏

ورغم ذلك‏,‏ لم يتوقف الحضور الإيطالي
في الثقافة المصرية‏,‏ خصوصا بعد انتهاء الحرب‏,‏ واتضح ذلك في إرسال
البعثات لدراسة فنون العمارة والنحت والرسم والباليه والموسيقي والإخراج
السينمائي والمسرحي والآداب‏,‏ وتتابعت الترجمات الأدبية من اللغة
الإيطالية إلي اللغة العربية‏,‏ وبرز مترجمون استثنائيون في هذا المجال‏,‏
منهم المرحوم حسن عثمان الذي قضي عشرين عاما في ترجمة رائعة دانتي
الكوميديا الإلهية ولا تزال ترجمته عملا نموذجيا في التدقيق والمعرفة
العميقة والصبر إلي اليوم‏.‏

ولم يترك المترجمون المصريون‏,‏ خصوصا
بعد أن لحق بهم أشقاؤهم العرب‏,‏ عملا بارزا في الأدب والفكر الإيطاليين
إلا وترجموه‏,‏ ابتداء من فيكو إلي ما بعد كروتشه‏,‏ ومن دانتي إلي
كوازيمودو‏Quasimodo‏ إلي جابريل داننزيو‏Dannusio,‏ وأونجاريتي‏,‏ ومن
بوكاشيو إلي ألبرتو مورافيا إلي إمبرتو إيكو‏,‏ ومن جرامشي إلي سيلونه
مؤلف رواية فونتمارا التي حاكاها عبدالرحمن الشرقاوي بروايته الشهيرة
الأرض مؤسسا بداية تيار الواقعية الاشتراكية في الرواية المصرية‏,‏

وأضيف إلي ما سبق عشرات وعشرات من أسماء الذين أصبحت أعمالهم مألوفة للقارئ والمثقف المصري والعربي‏.‏

ويلفت
الانتباه‏,‏ في السياق الأدبي المصري‏,‏ التعايش الحميم بين المصريين
والجالية الإيطالية التي وصل عددها في مصر إلي ما يربو علي‏000,50‏
نسمة‏,‏ قبيل الحرب العالمية الثانية‏,‏ واستمر تناقصهم الحاد بسبب
الاحتلال البريطاني علي مصر بالدرجة الأولي‏,‏ لكنهم ظلوا جزءا حيويا من
الحياة المصرية إلي عهد غير بعيد‏,‏ ومؤثرين في مظاهر الحياة المصرية
والعامية المصرية التي دخلتها مئات الكلمات الإيطالية التي يمكن إحصاء ما
بقي منها في الحياة اليومية‏,‏

ابتداء من كلمة جيلاتي وليس انتهاء
بكلمة ترسينة ولذلك كان من الطبيعي أن يهتم الروائيون وكتاب القصة القصيرة
المصريون بتصوير هؤلاء الذين عاشوا معهم أفراحهم وأحزانهم‏,‏ ابتداء من
جيل نجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار ومحمود البدوي‏,‏ مرورا بجيل فتحي
غانم وإحسان عبدالقدوس‏,‏ وليس انتهاء بجيل إبراهيم عبدالمجيد في رواياته
السكندرية التي تشمل الصياد واليمام ولا أحد ينام في الإسكندرية وطيور
العنبر وترصد الرواية الأخيرة اضطرار الجالية الإيطالية إلي الهجرة مع
قيام ثورة‏1952,‏ وما حدث من ضغوط أدت إليها حرب‏1956,‏ فأفضت إلي تغيير
أسماء الشوارع الإيطالية إلي أسماء مصرية‏,‏

فضلا عن تحولات المكانة والأوضاع‏,‏ وهو الأمر نفسه الذي عالجه أسامة أنور عكاشة في الأجزاء التي عرضت من مسلسله زيزينيا‏.‏