الدائرة المغلقة بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف مشمش الخميس يونيو 18, 2009 10:26 am

الدائرة المغلقة
بقلم : أسامة أنور عكاشة

قالوا
لها إن المعتقل الذي هرب منه شوقي أكثر حصانة من قلعة مشيدة لايمكن أن
تهرب منها ذبابة‏,‏ وندر أن يسمعوا عن محاولة هرب نجحت في السابق‏,‏ كانت
كل المحاولات تنتهي بفشل ذريع‏,‏ والمدهش أن كل المحاولات كانت دائما
مرتبطة بحديث الجنة الضائعة والكنز المخبوء‏,‏

ولهذا لم تقتصر شهرة
المكان علي حدوتة السجن المحصن الذي يستحيل الفرار منه‏,‏ بل تكونت حول
تلك الحدوتة مجموعة من الطلاسم والألغاز أوجدت عالما أسطوريا أشبه ما يكون
بعوالم ألف ليلة وليلة لسعته لفحة من هجير الظهيرة فأفاق من حلم طويل
وثقيل الوطأة رأي فيه نفسه يسقط في بئر ملأي بالجواهر والأحجار الكريمة
التي ظلت تتساقط من فوق رأسه حتي غطته تماما‏,‏ وصار يصرخ مستنجدا‏,‏
ولكنه صراخ الكوابيس‏,‏ فقد اكتشف أنه يصرخ بلا صوت وأن أحدا لا يسمعه
فكانت لحظة صحوته هي نفس لحظة يأسه واختلطت مشاعره بين فرحة النجاة وظلمة
اليأس‏..‏ أدار رأسه يبحث عن رفيق سفر ووجده علي مقربة مندمجا في نوبة
غطيط تكسر الصمت السابغ في تحد مستفز‏,‏ تمني للحظة لو استطاع أن يكتم
أنفاس الشاعر الحزين أي شاعر هذا الذي يصدر مثل هذه الأصوات ربما كنا نفعل
ذلك وبطريقة أكثر فظاظة‏,‏ ولكن الشاعر بالذات لا يحق له هذا‏,‏ تذكر وهو
يضع الغلاية علي النار قصيدة درسها ضمن مقرر الشعر العربي الحديث‏..‏ حيث
وصف الأخطل الصغير‏(‏ بشارة الخوري‏)‏ حالة صمت تلم به وبالكون حوله
فقال‏:‏

صمت يقظك فيه

خب النمل في ملس الرخام

ابتسم وهو يصب الشاي في قدحه مفكرا في معني البيت‏,‏ ووجه حديثه إلي رفيقه النائم وكأنه يسمعه‏..‏

ـ
أرأيت هذا الشاعر وتعبيره البارع عن إحساسه بالصمت وبلاغة الصمت وكانت
لهجته مفعمة بالانبهار دفع النائم ليقظة حانقة وإذا به يهب مستيقظا من
نومه وهو يهتف محتجا‏:‏ ومن أدراك أنت بالشعر والشعراء‏,‏ الأجدر بك أن
تنكفئ علي المانيفوستو أو أوراق هيجل فلعلك في النهاية يمكنك أن تفهم ما
تردده كالببغاء‏.‏

كان شجارا صباحيا لا معني له‏,‏ ولكن شوقي آثر
أن يصمت فهو يعرف ما يتمتع به الشاعر الحزين من قدرة علي الإساءة الي
الآخرين‏,‏ وقد شهد بنفسه ما فعله بالرفيق الصامت المتوحد الذي أحبه
الجميع هناك‏,‏ وكيف لخلاف عابر مزقه الشاعر بقسوة وسادية أشار فيها الي
الشكوك التي أحاطت بالفتي الصامت الخجول والي شكوك أخري أشارت الي‏(‏
مثليته‏),‏ وفي اليوم التالي وجدوا الفتي المطعون صريعا علي باب
المعسكر‏..‏

لم يتحمل المسكين قسوة الاتهام وبشاعته‏..‏ وجد نفسه
هدفا لاتهام لا سبيل الي دحضه إلا أن ينزل وحيا من السماء يبرئه‏!‏ كره
الجميع الشاعر وتجنبوه لمدة طويلة كان خلالها يتلقي نظراتهم المليئة
بالاحتقار‏,‏ وكان يرد عليها بأوقح منها‏,‏ بل اتخذ وضع الهجوم وأصبح هو
من يبادر بالسلوك العدواني‏,‏ وظل الموقف علي هذه الوتيرة الي أن برد
وفترت حدته بعد حين لتعود علاقته بالجميع كما كانت‏.‏

تذكر شوقي ما
حدث حين رأي في عيني الشاعر ذلك التعبير الذي رآه عشية يوم انتحار الفتي
المطعون وأحس ساعتها بالرعب وخيل له في لمحة بارقة كاليقين‏,‏ أن الرجل
قادر علي إفساد حياته بشكل أو بآخر‏,‏ ولحظتها آثر أن يهرب من مواجهة
الخطر‏.‏

أي خطر؟ وكيف تواجهه؟ كان السؤال أكثر وضوحا من الجواب‏!‏
فالخطر هو الخطر ذلك الشعور الداهم بالعجز في مواجهة ما يعصف بك وما يهدد
وجودك بالزوال‏,‏ أما عن وسيلة مواجهته فهي الهرب‏..‏

ماذا حدث لكي
يغزو الهرب عقله؟ هو يدرك في أعماقه أن فكرة الهرب راودته منذ الليلة
الأولي لمحاولتهما الفرار من معسكر الاعتقال‏,‏ وكان الآخر بدوره يفكر في
نفس النسق‏..‏ إذن فكل منهما كان يدرك في أعماقه أن حكاية الكنز غير
حقيقية‏,‏ وانما كانت مجرد فضول جامح لمعرفة ما يحدث لكل من يحاول الفرار
ولا يعود‏,‏ وكان السؤال الأكثر أهمية هو ماذا يفعل الهارب حين تفشل
محاولته؟ هل يقعي بجوار كثيب رملي وينتظر حتي يوفي أجله أم يظل يتبع سرابه
حتي تخور قواه ويقتله العطش؟‏.‏

لكن هل يخلو الأمر من احتمال آخر؟‏..‏ ألا يجوز أن يفلح أحدهم في الهرب؟ أين إذن يتحدد المصير‏.‏
المصير‏...‏ تلك هي الكلمة عليه أن يبحث عنها ويدعه من محاولات البحث عن أشخاص بحثوا عن الكنز وماتوا من أجله‏.‏
ارتجفت أطرافه بقشعريرة من يفاجأ بقبس من نور يضيء في ليلة حالكة الظلمة خيل إليه أنه قبس المعرفة‏..‏ ولكن هل عرف حقا؟‏.‏