الصـيام وآثاره علي الصــائم

إن الدين الإسلامي هو منهج الله الأمثل الذي يستهدف صنع الحياة والوجود علي دعائم مكينة من الحق‏,‏ والعدل‏,‏ والخير‏,‏ والفضيلة‏.‏

ولقد جاء الإسلام‏,‏ وهو يبتغي هذه الغاية ويرمي اليها ويقود نحوها منهجا متكاملا لم يعرف البشر ولن يعرفوا منهجا أمثل من منهج الإسلام وهو يبصر الناس بمكانهم من ربهم ومكانة ربهم منهم حيث يبين لهم ان الله ربهم‏,‏ وهم عباده‏,‏ ومن حق الربوبية اعظامها وإكبارها ومن واجب العبودية ان يعيش المرء في حجمه وان يشعر بمكانه وان يدرك طبيعته‏,‏ فهو مخلوق لربه الخالق‏.‏

ومخلوق علي هذا النحو لإله له الجلال‏,‏ والكمال‏,‏ والجمال لابد من ان يشعر نحو ربه بكل الإعظام له والخشوع إليه من حيث كونه لذلك أهلا لما تميز به الإنسان عن سائر الخلق بالمسئولية والتكليف خلقه الله سبحانه وتعالي‏:‏ وجعل له رسالة ضخمة ووظيفة حيوية‏,‏ جاءلها مستعدا ولها مهيأ ولهذا جاء الإسلام يستهدف الناس في منهجية متكاملة‏,‏ يتلاقي فيهامع ربه ونفسه‏,‏ وبيئته ومجتمعه‏.‏

نلمس ذلك جيدا‏,‏ في كل مجالات الإسلام في العقيدة وفي الشريعة وفي الأخلاق والسلوك وفي علائق الإنسان بربه‏,‏ ونفسه ومجتمعه تشهد بهذا كل اركان الإسلام وقواعده من أولها إلي آخرها‏.‏

والصيام وهو أحد هذه الأركان والفرائض التي فرضها الله علي المسلمين وأمرهم بها‏,‏ ودعاهم اليها انما تتمثل فيه هذه الجوانب ويستهدف هذه الأهداف بكل صور القصد والإحاطة والشمول وبجميع الأبعاد والأعماق في طوايا ومظاهر النفس والفرد والمجتمع والأمة يلبي داعيتهم ويغطي حاجتهم ويصوغ الحياة والأحياء مع بقية قواعد الإسلام واركانه ويعيد تشكيلها علي أسس من الطهر‏,‏ والنقاء والإيجابية والبناء‏.‏

ان للصوم أهدافا حيوية‏,‏ وغايات عملية ترتبط كلها أيما ارتباط بخواطر الوجدان والشعور وجوانب الأخلاق والسلوك وتدور جميعها في ذلك المنهج الرباني لبناء النفس وتكوين معالمه‏,‏ واعداد مقوماتها وصقل امرها لتنهض بأمانة الدين وأمانة الدنيا‏.‏

والتقوي بطبيعة الحال أول هذه الأهداف واوسعها دائرة واكثرها حجما واجزلها عطاء وابرها بأمورالدنيا‏,‏ واوفاها بشئون الأخرة‏.‏

وتقوي الله في مدلولها العام ومفهومها الشامل ترجع إلي اتقاء الإنسان كل مايضره في نفسه‏,‏ وفي اسرته وفي مجتمعه وما يحول بينه وبين المقاصد الإنسانية والكمال الممكن‏.‏

وما شرعه الله في رسالة الإسلام امرا ونهيا وسيلة لهذا الكمال النفسي والكمال الخلقي والكمال الفكري والكمال السلوكي‏.‏

ان التقوي هي العاصم الذي ينبثق من خلال الصوم وتنفجر ينابيعه وتتعدد معطياته في شمول وعمق بحيث يضع النفس‏,‏ والجوارح في مواجهة حقيقية وأكيدة أمام تباعاتها المسئولة وفي إطارها العام‏.‏

وان للصوم كسائر العبادات في الإسلام غايات تشريعية اشارت إليها الآية القرآنية في قوله تعالي في سورة البقرة‏‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏).‏

إن الإسلام لا يدعونا إلي التقوي ولا يحضنا عليها إلا وهو يوجهنا إلي بواعثها ويقودنا إلي روافدها ويبصرنا بمواقع استلهامها‏,‏ ومواطن الحاجة اليها والعمل بها كخصلة جامعة‏,‏ تمسك لبنات المجتمع وتشد بنيانه وتوثق عراه وتحيله إلي خلايا إيجابية حية‏,‏ ومتعاونة تجعل الإنسان لا يقصر عن نجدة ولا يضيق بمروءه ولا يتبرم بهتاف ولا يطمع في حق ليس له‏,‏ ولا يفرط في واجب انما يعيش في امته تقيا خالصا صافيا‏.‏

فالإسلام الحنيف يدعونا في صيام شهررمضان ان نمنح التقوي حقها الواجب وقدرها المستطاع‏,‏ من الطاقات‏,‏ والقدرات‏,‏ في النفوس‏,‏ والضمائر وفي شتي صور التعامل وانماط الحياة‏.‏

ومن شأننا ان نسارع إلي التقوي‏,‏ ونستبقها‏,‏ ونجعلها زادنا إلي الله وعدتنا في طريقه نستلهم منها يقظة الحس وحيوية النفس‏,‏ وصحوة الضمير‏,‏ واستواء الخلق‏,‏ واستقامة السلوك‏.‏

ان تقوي الله تبارك وتعالي حين يحضناالإسلام عليها ويدعونا اليها إنما يدعونا إلي الوقاية الذاتية‏,‏ والمتابعة الأمينة‏,‏ والمحاسبة الدائبة‏,‏ والمراجعة الدقيقة لكل ما يصدر عن الإنسان‏.‏

وإذا كانت التقوي هي الغاية التشريعية‏,‏ التي أشارت اليها الآية الكريمة‏,‏ في قوله تعالي‏‏ لعلكم تتقون‏)‏ وإذا كانت‏(‏ التقوي‏)‏ هي حالة تتكون في النفس نتيجة للإيمان بالله فما هو دور الصوم في إيجاد هذه الحالة؟

إن الصوم هو المعاناة العملية‏,‏ لتوطين النفس ورياضتها‏,‏ علي تربية النزعة الإيمانية في الفرد والمجتمع ويتحقق ذلك من خلال مظهرين‏:‏ المظهر الأول‏:‏ مظهر الرياضة علي الصبر‏,‏ والخشونة في مواجهة الحياة‏.‏

والمظهر الثاني‏:‏ مظهر المراجعة العامة‏,‏ وكشف الحساب مع النفس في دورة تدريبية امدها شهر إسلامي يتجه الإنسان المسلم في هذه الدورة إلي الله تعالي طالبا العون علي مواجهة التحديات ويتكاشف فيها الإنسان مع نفسه محاسبا لها قبل ان تحاسب ثم يعود إلي ربه تائبا منيبا‏.‏

فإذا الضمير يقظ حي والنفس صافية والوجدان دقيق ورقيق والشعور حساس ومرهف‏,‏ والصدر سليم ونقي‏,‏ والقلب طهور وزكي‏,‏ والخلق سوي والسلوك رضي والمجتمع كله في قصد واستقامة وسلام وألفة وحب وايثار ومشاركة وجدانية رفيعة‏,‏ انها جميعا إشراقات للصوم يصل مداها إلي كل بعد يتغلغل اثرها إلي كل عمل‏.‏

وإيمان المسلم بالله سبحانه وتعالي أنه معه‏,‏ يعلم السر منه والعلانية يمثل رقابة ذاتية عملية‏,‏ لا يحتاج الإنسان معها إلي رقابة المخلوقين‏,‏ والصائم بسلوكه تتربي عنده موهبة المراقبة لله تعالي حيث يخلو بالمفطرات ولا رقيب عليه إلا الله تعالي قال تعالي في سورة الحديد‏(‏ وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير‏)[‏ الحديد‏:4]‏

والمعية هنا حقيقة هائلة‏,‏ حين يتمثلها القلب‏,‏ حقيقة مذهلة من جانب ومؤنسة من جانب آخر مذهلة بروعة الجلال‏,‏ ومؤنسة بظلال القربي وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري علي حقيقتها‏:‏ ان ترفعه وتطهره وتدعه مشغولا بها عن كل اعراض الأرض‏,‏ كما تدعه في حذر دائم مع الحياة والتحرج من كل دنس‏,‏ ومن كل اسفاف‏.‏