رد: كل يوم بقلم مرسي عطا الله

44493

‏السنه 133-العدد

2008

سبتمبر

30

‏30 من رمضان 1429 ه

الثلاثاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(1)

اين
ذهب المبشرون بجنه الرخاء التي قالوا انها ستتسع لكل شعوب العالم بعد نشر
سياسات ومناهج واليات العولمه بشكل عام والعولمه الاقتصاديه والسياسيه
بشكل خاص‏,‏ فاذا بنا امام انهيار مالي واقتصادي لم يسبق لامريكا زعيمه
العولمه ان تعرضت له منذ ازمه الكساد العالمي عام‏1930.‏

ان معظم
شعوب العالم تصرخ من التداعيات السلبيه للعولمه التي افرزت عده ظواهر
سلبيه اهمها زياده الفقر والتهميش في ظل اتساع الهوه بين دول الشمال
الغنيه ودول الجنوب الفقيره لاسيما ان اقتصاد معظم الدول الفقيره قد غدا
مفككا نتيجه التراجع الصناعي والزراعي في هذه الدول‏.‏

بل ان هذه
العولمه الملعونه حملت معها افرازات كريهه تمثل تهديدا لاستقلال الدول
وسيادتها ويتمثل هذا التهديد بصوره لافته في تنامي النزعه التسلطيه
الجديده ممثله في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمه التجاره
العالميه حيث تتفق هذه الموسسات الثلاث علي فرض قواعد للسلوك الاقتصادي
والاجتماعي علي البلدان الفقيره وتضغط بقوه من اجل ارغامها علي اتخاذ بعض
الاجراءات وفقا لحسابات تصب في المقام الاول لمصلحه هذه الموسسات الدوليه
الكبري او بمصلحه القوي العظمي المهيمنه علي هذه الموسسات‏.‏

والاهم
والاخطر من ذلك كله ان قواعد التربيه والسلوك التي يراد اجبار الدول
الفقيره علي اتباعها باعتبارها روشته الانقاذ ابعد ماتكون عن قراءه الواقع
واستشراف حقيقه العقبات والمعوقات التي تعترض طريق التطور في الدول
الناميه وما يفرضه ذلك من مستلزمات ينبغي عدم اهمالها في اي مشروعات
تنمويه‏.‏

واذا كانت الشركات المتعدده الجنسيات ليست ظاهره جديده
ولدت مع العولمه الحديثه حيث انها استنساخ متطور لنماذج مماثله بدات في
العصور الوسطي مثل بنك اسره فريتشي في ايطاليا وشركات الهند البريطانيه
الا ان العولمه وفرت لهذه الشركات العملاقه هيمنه واسعه بحيث انها اصبحت
اليوم هي صاحبه القرار الاقتصادي وبالتالي اصبحت الي حد كبير هي صاحبه
السياده في توجيه دفه السياسه العالميه‏.‏

وباسم حريه التبادل كاحد
اهم عناوين العولمه يتزايد الدور التخريبي والاستغلالي الذي تلعبه المناطق
الحره في الاقتصاد العالمي فضلا عن الدور الذي تلعبه منظمه التجاره
العالميه بعد ان اصبحت مركز القرار في عمليه تنظيم التبادل التجاري
والجمركي وفي تنظيم جداول الزراعه في العالم الثالث فضلا عن احتكارها
لمسئوليه التحكيم في الخلافات التجاريه بين الدول‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44494

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

1

‏غره شوال 1429 ه

الاربعاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(2)

حسب
الرويه السائده لدي انصار العولمه فان المحرك الاساسي في فكره التقدم
الانساني يكمن في انتهاج منظومه اقتصاديه دوليه ليبراليه‏,‏ لاتخضع لاي
سلطه ضاغطه لاسيما سلطه الدوله‏.‏

ومعني ذلك ان العولمه تستهدف شل
قدره الدوله علي ضبط اليات النشاط الاقتصادي لخدمه المتطلبات‏,‏
والاستحقاقات الاجتماعيه‏,‏ وجعل العالم كله سلعه قابله للبيع والشراء دون
قيد‏,‏ او شرط‏,‏ ودون ادراك للمخاطر الرهيبه‏,‏ التي يمكن ان تترتب علي
هذا الجنوح العالمي‏!‏

والحقيقه ان ايه قراءه منصفه للوضع العالمي
الراهن تشير الي انه في الوقت الذي يمكن فيه الاعتراف بان اليات العولمه
تفتح فرصا للتقدم التكنولوجي وتفتح افاقا غير مسبوقه في حريه المعرفه
والمعلومات‏,‏ فان الموكد ان هذه العولمه ادت الي تكريس الظلم واللاعداله
في التوزيع‏,‏ والموجوده اصلا بين الشعوب وفيما بينها‏.‏

واذا كان
من بين ماكان يجري التبشير به لمصلحه العولمه منذ سنوات انها ستودي الي
نشر الديمقراطيه‏,‏ واضعاف الانظمه الدكتاتوريه في العالم‏,‏ فان واقع
الحال الان يكشف عن مفارقه غريبه هي ان العولمه اسهمت في تفاقم مشكلات
العجز الديمقراطي بصوره غير مسبوقه في الدول المتقدمه بسبب النفوذ السياسي
المتصاعد للشركات متعدده الجنسيات العابره للحدود‏,‏ والتي بامكانها
التاثير في شكل‏,‏ ومسيره المجتمعات عبر مجالس ادارتها‏...‏ وهي مجالس
لاتعبر عن مصالح عامه الناس‏,‏ ولكنها تعبر عن مصالح ملاك هذه الشركات في
المقام الاول‏.‏

وليس اكذب من القول العولمي بان تسليم السلطه
السياسيه للسوق سوف يقود تلقائيا الي نشر القيم الديمقراطيه‏,‏ وخدمه
مصالح الشعوب لانه حتي لو نجحت العولمه في نشر مبدا التجاره الحره علي
اوسع نطاق فان ذلك ليس موشرا للرهان علي عالم اكثر سلامه‏,‏ واكثر
استقرارا‏,‏ خاصه اذا سيطرت قوي السوق علي اليات السلطه في المجتمعات
المختلفه‏!‏

والخلاصه ان كل الموشرات ترجح ان العولمه مالم يتم
ترشيدها سوف تودي الي نشوء اضرار قاتله خاصه في دول العالم الثالث‏,‏ التي
باتت مهدده باخطار حاده‏,‏ بينها خطر اضعاف دور الدوله‏,‏ وخطر تفجر ازمات
اجتماعيه طاحنه‏,‏ قد تودي الي تشطير المجتمعات‏,‏ التي مازالت تكافح
لبناء درجه معقوله من الوحده الوطنيه‏,‏ والتضامن الاجتماعي‏.‏

والحقيقه
برغم مرارتها تستحق الكشف عنها مهما تضمنت من اشارات متشائمه يمكن تحويلها
بالجهد والاراده الي اشارات متفائله بالاسهام الفاعل في دق اجراس التنبيه
لضروره الاسراع بتضييق الهوه الواسعه بين اغنياء العالم وفقرائه‏...‏
مجتمعات ودولا‏!‏

والازمه الماليه الرهيبه‏,‏ التي هزت امريكا
اخيرا‏,‏ والتي تحمل في طياتها مخاطر علي اقتصاديات العالم باسره‏,‏ بعد
ان انتقلت تداعياتها لتهز الاقتصاد الاوروبي ايضا ينبغي ان تعيد الرشد
للعقول المغيبه بروشتات العولمه‏!‏

44495

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

2

‏2 من شوال 1429 ه

الخميس

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(1)

كلنا
نتعرض بصوره شبه يوميه للعديد من المشكلات التي تتطلب حلولا‏..‏ ولانه ليس
في قاموس الحياه ما يمكن القول انه حلول جاهزه في مواجهه مثل هذه المشاكل
فان التحرك علي طريق الحل لاي مشكله يرتهن بعاملين اساسيين‏..‏ اولهما
شخصيه الفرد وما يملكه من اراده وعزيمه‏..‏ وثانيهما هو ما يمكن ان يحصل
عليه من دعم مساعد سواء كان هذا الدعم ماديا او بالمشوره مع الاصدقاء
والاقرباء والمحبين او من المجتمع ككل‏!‏

والحقيقه ان شخصيه الفرد
وارادته التي تمكنه من حل المشكلات وتجنب الازمات ليست مجرد رغبه وامنيه
وانما هي انعكاس لتكوينه النفسي وطبيعه تعامله مع الاخرين وكلما كان المرء
ايجابيا وفاعلا توافرت له فرص النجاح والقدره علي تجنب الازمات‏,‏ خصوصا
اذا تدعمت هذه الايجابيه والفعاليه باحساس متدفق بالرضا عن النفس ولكن مع
ضروره مراعاه عدم تجاوز الخط الفاصل بين ان يكون الشخص ايجابيا‏,‏ او ان
يكون عدوانيا‏..‏ فالايجابيه ميزه وفضيله محموده‏,‏ بينما العدوانيه
والسلبيه كلتاهما تندرجان تحت مسمي الرذيله‏.‏

ان الاحساس بالرضا
عن النفس هو المقدمه لطرد شبح الارق والقلق والتوتر مهما تتعقد المشكلات
ومهما تتعاظم التحديات وهو ايضا جدار الوقايه من اي استفزاز متعمد ومن اي
محاوله لابعاد المرء عن مواصله السير علي الطريق الصحيح‏.‏

ومع
التسليم بانه ليس بمقدور احد منا ان يضع اعصابه في ثلاجه وان يتجنب الشعور
بالقلق في عصر تسارعت وتيرته وتغيرت قواعده وتبدلت قيمه‏,‏ فان بمقدور
الانسان تقليل حجم التوتر‏,‏ وتخفيف حده المشكلات وعدم التدحرج التلقائي
الي مناطق الخطر الكامنه في الضغط العصبي ومنغصاته من خلال المواظبه
والالتزام بمجموعه من التدريبات السلوكيه التي تساعد علي حسن مواجهه
الامور‏,‏ وليس الهروب منها‏.‏

وهذا الذي اتحدث عنه ليس روشته
جاهزه ولا هو وصفه سحريه وانما هو اشبه ببرنامج للتغذيه لا يستهدف تغذيه
البطون‏,‏ وانما يراد منه حمايه عقل المرء واعصابه من اي نوع من انواع
الجوع الفكري والثقافي والمعنوي الذي يساعد علي هدوء الاعصاب وراحه
البال‏.‏

ان نقطه البدايه تنطلق من ضروره تجنب السلوك الذي يجعل من
المرء محورا لاهتمام الاخرين عن طريق الاستمرار في التحدث بغير انقطاع‏,‏
فمن الافضل ان يدرب نفسه علي ان يجيد فن الاستماع للاخرين باكثر مما يرغب
في الكلام وحتي اذا وجد نفسه منطلقا في الحديث دون ضروره‏,‏ فعليه ان
يحاول التوقف لحظه واحده ليسال نفسه ثلاثه اسئله قبل ان يستانف الحديث‏..‏
هل لدي شئ مهم اود ان اقوله؟‏..‏ هل الاخرون لديهم رغبه في الاستماع الي
ما اقول؟‏..‏ هل هذا هو الوقت المناسب للحديث؟‏..‏ فاذا كان جوابه علي اي
من هذه الاسئله بالنفي عليه ان يلتزم الصمت وعدم مواصله الكلام‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44496

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

3

‏3 من شوال 1429 ه

الجمعه

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

استكمالا
لحديث الامس عن حزمه الضغوط العصبيه التي تتكاثر وتتوالد من كثره المشاكل
والازمات اكرر القول بانه ليست هناك روشته جاهزه ولا وصفه سحريه يمكن ان
يعتمد عليها المرء لتخفيف الضغوط وانما يمكن الحديث عن علامات استرشاديه
لتقليل المخاطر‏.‏

ولعلي بدايه اقول ان علي المرء ان يحاول ان
يتحكم في استعجاله الدائم للامور‏,‏ فاذا لاحظ مثلا انه يضاعف سرعه سيارته
ليلحق بالاشاره الصفراء قبل ان تتحول الي اللون الاحمر‏,‏ فعليه ان يدرب
نفسه علي الا يفعل ذلك وعليه ان يتعلم بكل الرضا والاقتناع عاده الانتظار
في الطابور حتي يحين دوره‏.‏

وكل علماء علم النفس والاجتماع
ينصحونك بالا تبخل علي نفسك بوقت تقضيه في اشباع هوايه او عده هوايات
رياضيه وفنيه وذهنيه‏..‏ بل ان قراءه كتاب جديد ربما تكسب حياتك مذاقا
الذ‏..‏ وتجعلك اكثر استعدادا للراحه والاسترخاء وتجنب الضغط العصبي‏.‏

ومعني
ذلك انك مطالب بان تعيد النظر في اسلوب حياتك فلا تلزم نفسك بمواعيد غير
ضروريه لان كل موعد تلتزم به يشكل علي اعصابك ضغطا اضافيا ولا تحرم بدنك
ونفسك من قسط من الراحه اثناء العمل لان ذلك يحرمك من فرصه متاحه لالتقاط
الانفاس وتجديد النشاط والقدره علي استئناف العمل وتقليل امكان التعرض
للضغط‏.‏

ان عليك ان تعيد تنظيم جدول اعمالك مسبقا ولا تدون الا كل
ما هو مهم وضروري ومفيد للغايه من ناحيه وما يتناسب مع الوقت الكافي
المتاح لديك لانجاز ما تدونه علي اكمل وجه‏...‏ وعليك ايضا ان تكن حذرا
ودقيقا ومدركا لما يمكن ان يحدثه سلوكك من ردود افعال لدي الاخرين‏.‏

والاهم
من ذلك كله الا تبخل بكلمه شكر لمن يقدم لك خدمه ولا تضن بكلمه تحيه لمن
يبادلك مشاعر طيبه‏,‏ وعليك ان تقوم بكل ما يودي الي تقويه وتدعيم علاقاتك
في المحيط الذي تعيش فيه‏!‏

وقبل هذا وذلك فان عليك عدم الاستخفاف
بمخاطر الاستغراق والانشغال في العداء مع الاخرين لمجرد انهم يختلفون معك
في الراي‏,‏ او لانك بدلا من ان تحاسب نفسك علي تقصيرك تستسهل القاء
المسئوليه علي الاخرين‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏‏

44497

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

4

‏4 من شوال 1429 ه

السبت

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏3‏)

الامر
الموكد علميا وطبيا استنادا الي ابحاث ودراسات عديده ان الاحساس بالرضا عن
النفس وترشيد الطموح وعدم استهلاك العمر في الصراع مع الاخرين والتحلي
بالتسامح والتخلي عن العدوانيه هو افضل روشته لتجنب الاحساس بالتوتر
والقلق والاكتئاب والتعرض لخطر التوتر العصبي وانفلات الاعصاب‏.‏

ولعل
ذلك مايدفع البعض الي صحه الاعتقاد بان الغني والثراء والرفاهيه والتقدم
تمثل الان اكثر العناصر التي تعجل برحله الانسان المبكره نحو قبره
بارادته‏,‏ في حين ان الحياه البسيطه والتقشف مع مظله من القناعه والرضا
هي اهم العناصر التي تحفظ صحه الناس وتساعد علي اطاله عمر رحلتهم في
الحياه‏.‏

والحقيقه اننا جميعا معرضون للتعامل مع مشكلات الحياه
وتحدياتها‏...‏ ولكننا ننقسم الي صنفين متباينين تماما‏...‏ فهناك صنف من
الناس يملكون القدره علي التعامل بتوازن نفسي ومعنوي يقيهم خطر
الاهتزاز‏...‏ وهولاء هم الاسعد حظا‏...‏ وصنف اخر من الناس ترتفع لديهم
معدلات التوتر نتيجه عدم قدرتهم علي التكيف مع واقع الحياه
ومتغيراتها‏...‏ وهولاء هم الاتعس حظا‏,‏ لانهم الاكثر عرضه للقلق والتوتر
وانفلات الاعصاب‏!‏

واخطر مايصيب المرء ان يترك نفسه فريسه
للشائعات التي تودي الي بلبله الفكر‏,‏ فالبلبله تبدا باشياء غير مفهومه
ثم سرعان ماتتحول الي اشياء غير مقبوله توذي المشاعر وتفرز الاكتئاب‏!‏

وافضل
مايصنع صفاء المرء مع نفسه ويجنبه خطر التوتر والقلق ان يكون متسامحا
بطبعه معاديا لفكره العقاب والانتقام ممن اساءوا اليه‏,‏ لان الانتقام
والعقاب قد يمنع تكرار الاساءه ولكنه لايدفع ابدا الي الخير والحب
والتسامح‏.‏

واذن فان افضل نصيحه تسديها لنفسك قبل ان تسديها لمن
تحبهم وتهتم بامرهم هي ابدا بنفسك واحترم ذاتك واعتن بكل ما يساعد علي
الاحساس بالرضا علي النفس وبناء جسور الحب والصداقه والتعاون مع الاخرين‏.‏

انها
الروشته المثلي لتجنب التوتر والقلق والضغط العصبي وانفلات الاعصاب‏...‏
وبالذات في تلك الايام الساخنه المحمله بهذا الكم الرهيب من الازمات
العالميه والكوارث القدريه والسلوكيات المستفزه‏!‏

واعظم مافي هذه الروشته انها تصلح للمدير والخفير وللغني والفقير وللنجم وللصعلوك‏...‏ فالكل في الهم في هذا العصر سواء‏!‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44498

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

5

‏5 من شوال 1429 ه

الاحد

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏4‏)

تبقي
كلمه اخيره وضروريه في ختام هذه الاطلاله‏..‏ الروحيه والنفسيه بشان ضغوط
العصر الذي نعيشه وجوهر هذه الكلمه ان معظم الناس في مختلف دول العالم
الغنيه والفقيره علي حد سواء يعانون من التوتر والقلق والضغط العصبي‏,‏
ويبدو ذلك بوضوح في شكل انفلات للاعصاب وتهور السلوك خصوصا في اشهر الصيف
التي تمتزج فيها حراره ساخنه مع رطوبه خانقه‏.‏

والتفسير المنطقي
والبسيط لما نراه هو ان الانسان في ظل التقدم العصري بات معرضا لاحمال
عضويه ونفسيه تفوق قدره احتماله‏,‏ كما ان متغيرات المناخ والبيئه ساهمت
هي الاخري في عجز الانسان عن التواوم مع الطبيعه التي اعتاد عليها والشعور
بعدم الاحتمال للحر والبرد علي حد سواء‏.‏

ويخطئ من يتصور ان
التوتر والقلق والضغط العصبي امراض مستجده لم تكن موجوده من قبل‏...‏ فقط
يمكن القول انها لم تكن منتشره بهذا الاتساع‏,‏ الذي يعكس واقع ازدياد
مسببات الضغوط والتوترات مع ازدياد تسارع ايقاع الحياه‏,‏ وزياده مطالب
وطموحات الانسان واضطراره الي مخاصمه الطبيعه والاستعاضه عنها
بالتكنولوجيا العلميه التي بلغت حد الاعجاز في التوصل الي الخريطه
الوراثيه للانسان ومعرفه الجينوم‏!‏

وربما ايضا يجوز القول ان
سلوكيات العصر الحديث حرمت الانسان من خاصيه مهمه تتمثل في رد الفعل
الغريزي الذي كان يتعامل به الانسان مع اي خطر او تحد او مشكله تواجهه
بتلقائيه تمكنه من امتصاص الضغوط والتوترات العصبيه‏,‏ وبات من المحتم علي
انسان العصر الحديث ان يفكر الف مره قبل اللجوء لرد الفعل الغريزي‏,‏ وان
يضع امام عينيه كل العواقب والاعتبارات الاجتماعيه والقانونيه‏,‏ وهو
مايودي الي ارتفاع موشرات الاحساس بالقلق والتوتر والضغط العصبي‏.‏

وذلك
التفسير يتفق مع واحد من اهم قوانين الحياه‏...‏ فكل شئ له ثمن‏...‏ وهذا
هو الثمن الذي يدفعه الانسان من دمه واعصابه مقابل الاستمتاع بادوات العصر
المتقدمه والياته التكنولوجيه‏.‏

ومن الطبيعي ان يتصاعد الثمن كلما
تصاعد حجم الاستمتاع والاستفاده‏...‏ فكلما اوغل الانسان صاعدا في سلم
التقدم وتزايدت الضغوط التي يتعرض لها‏..‏ ومع تزاحم الضغوط تغلب علي
المرء حالات الاكتئاب والقلق والتوتر وانفلات الاعصاب ويتلاشي احساسه
بمتعه الحياه ويصبح اكثر عرضه للاصابه بالامراض النفسيه التي تفوق في
بشاعتها وخطورتها وصعوبه علاجها الامراض العضويه‏.‏

انها ضريبه
التقدم التي يدفع الانسان ثمنها من صحته واعصابه لكي يلبي طموحاته
واحتياجاته وايضا اطماعه سواء كانت مشروعه او غير مشروعه‏.‏

وكما ان الانسان هو صانع هذا التقدم الحضاري فان بمقدوره ان يصنع الصفاء مع نفسه لكي يقلل من مخاطر التوتر والقلق والضغط العصبي‏.‏

44499

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

6

‏6 من شوال 1429 ه

الاثنين

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( 1)‏

لست
ابالغ اذا قلت‏:‏ انه برغم مرور‏35‏ عاما علي يوم السادس من اكتوبر
عام‏1973‏ فان المشهد بكل تفاصيله الدقيقه لم يبرح ذاكرتي للحظه‏,‏ وكل
يوم يمر يزداد يقيني بان ذلك اليوم المشهود كان بمثابه شهاده ميلاد جديده
لمصر‏,‏ وكان وساما تاريخيا‏,‏ يتزين به شعب مصر وجيشها مهما كان او يكن
من احداث سابقه او تطورات لاحقه‏.‏

ودون حاجه الي معاوده التقليب
في اوراقي عن هذه الايام المجيده مازالت صور ومشاهد الاحداث كانها شريط
سينمائي تتداعي واحدا بعد الاخر‏,‏ من خلال الاشارات التي كانت تصلنا
تباعا في مكتب المتحدث العسكري الرسمي عن سير العمليات‏,‏ لكي تجري
صياغتها في بيانات شرفت بالمشاركه في صياغتها‏,‏ ولا اظن انه كان في تاريخ
مصر بيانات صادقه ومبهجه مثلها عندما زفت البشري‏,‏ ونشرت السعاده في نفوس
شعب مصر‏,‏ وامته العربيه بمثل ما احدثت تلك البيانات‏,‏ التي لم تكن
مضامينها بالارقام والصور اعجازا يفوق كل التقديرات‏,‏ وانما لانها عكست
صدقا وتدقيقا لم يعتد الراي العام المصري والعربي علي مثله من قبل‏!‏

ما
اعظمك ياجيش مصر‏..‏ الضربه الاولي‏,‏ التي نفذتها القوات الجويه‏,‏
والنيران الكثيفه‏,‏ التي تهدر بها مواسير المدافع المصريه الثقيله علي
امتداد خط المواجهه‏..‏ والاندفاع الجسور لافراد المشاه بقوارب المطاط
لاعتلاء الساتر الترابي‏,‏ واقتحام خط بارليف‏..‏ والملحمه الرهيبه لاقامه
المعابر والجسور في مواعيدها المحدده‏,‏ لتتمكن المدرعات من عبور الضفه
الشرقيه لقناه السويس لتحرم اسرائيل من شن هجومها المعتاد بالدبابات‏..‏
اسماء الشهداء في الساعات الاولي تهز الوجدان‏,‏ ولكن تلك هي ضريبه
الدم‏,‏ وعموما فان العبور الي الضفه الشرقيه للقناه قد تم علي اروع صوره
ممكنه‏,‏ والخسائر البشريه‏,‏ التي لحقت بقواتنا اقل بكثير مما توقعنا‏,‏
بينما الخسائر‏,‏ التي اصابت الاسرائيليين‏,‏ تتجاوز كل تقديراتهم
وتوقعاتهم‏!‏

ان من حق اجيال جديده لم تعش هذه الايام المجيده ان
تعرف انه بعد اقل من‏24‏ ساعه فقط من بدء الحرب كان جيش مصر قد نجح في كسر
اسطوره التفوق الجوي لاسرائيل‏,‏ ونجح ايضا في تعطيل مقدرتها التكنولوجيه
الهائله‏,‏ وتحطيم غرور العسكريه الاسرائيليه‏,‏ واستدراج الاسرائيليين
نحو اوضاع متتاليه تكشف نقاط ضعفهم بدءا من طول خطوط الامداد‏,‏ واتساع
ساحات المواجهه والاحساس بالجوع القاتل من الخسائر البشريه الكبيره‏.‏

ولم
يكن ذلك الذي حدث في الساعات الاولي لبدء الحرب بهذه الروعه‏,‏ وبهذه
البساله‏,‏ سوي درس جيد يوكد ان حسن التخطيط وجديه الاداء والقدره علي
كتمان السر والبراعه في اداره ملف الخداع علي المستويين التكتيكي
والاستراتيجي هي عناصر ضروريه تضمن للقرار السياسي ان يعبر عن نفسه‏,‏ وان
يوتي ثماره باقل قدر من الخسائر علي ارض الميدان‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44500

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

7

‏7 من شوال 1429 ه

الثلاثاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( 2)‏

‏اعتقد
ان احدي ابرز علامات التخطيط الجيد لحرب اكتوبر عام‏1973‏ ان خطه العمليات
وبعد نقاش طويل في رئاسه اركان حرب القوات المسلحه وبمشاركه جميع الافرع
الرئيسيه‏,‏ استمر عده اشهر‏,‏ قد استقرت ملامحها النهائيه عند الراي‏,‏
الذي ثبتت سلامته علي ارض الواقع‏,‏ بان من مصلحتنا ان نبدا الهجوم علي
اوسع مساحه ممكنه تشمل خط المواجهه باكمله الذي يمتد من السويس جنوبا الي
بورسعيد شمالا بطول يصل الي‏180‏ كيلو مترا‏.‏

كان اصحاب هذا الراي
في هيئه الاركان المصريه علي حق في الانتصار لهذا الراي برغم موافقتهم علي
الراي القائل بان تركيز الجهد العسكري المصري كله في منطقه محدده علي خط
المواجهه‏,‏ وبالذات منطقه الوسط‏,‏ سوف يساعد في احداث الصدمه المطلوبه
لاسرائيل‏,‏ بدرجه تودي الي مايقرب من الشلل‏,‏ ولكنه لن يحرم اسرائيل من
حريه وسرعه القيام بضربه مضاده قويه في الاجناب او في المناطق الخلفيه
اعتمادا علي تفوقها الجوي‏,‏ وبهدف تشتيت تركيزنا في عمليه العبور‏.‏

كان
توسيع خط المواجهه فكرا عبقريا مصريا لانه حرم اسرائيل قبل وفي اثناء
الحرب من اكتشاف اتجاه المجهود الرئيسي لقواتنا‏,‏ ودفع بها الي توزيع
وتشتيت ضربات الهجمه المضاده في البر والبحر والجو‏,‏ مما اضعف من
فعاليتها في وقف الهجوم المصري في اي منطقه علي طول خط المواجهه الممتد من
بورسعيد شمالا وحتي خليج السويس جنوبا‏.‏

ولعل ذلك هو الذي زاد من
ثقه القياده المصريه في الساعات الاولي من الحرب بان الامور تسير بافضل
مما كنا نتوقع‏,‏ حيث ظهر الارتباك واضحا علي دقه ومسار الهجمات المضاده
للاسرائيليين في شكل ضربات متهوره يقابلها من الجانب المصري هدوء اعصاب‏,‏
ورباطه جاش‏,‏ والتزام صارم‏,‏ بما تقرر في خطه العمليات باستمرار عمليات
العبور من الغرب الي الشرق مهما يكن الثمن‏!‏

وفي موازاه الانجاز
الهائل للضربه الجويه الاولي والنجاح المذهل لعمليات العبور الي الضفه
الشرقيه لقناه السويس‏,‏ خصوصا بعد ان نجحت ملحمه اقامه الجسور لتمكين
المدرعات من العبور‏,‏ وتامين قوات المشاه‏,‏ التي عبرت في الساعات
الاولي‏,‏ كانت قواتنا البحريه قد بدات هي الاخري في تنفيذ مهامها
القتاليه بضرب الاهداف الحيويه المحدده علي شاطئ البحر الابيض المتوسط‏,‏
وعلي شاطئ البحر الاحمر‏....‏ وكانت قوات الكوماندوز المصريه قد سبقت
الجميع بالهبوط بالمظلات خلف خطوط العدو في عمق سيناء‏,‏ ونجحت في ضرب
خطوط امداده‏,‏ وتعطيل هجماته المضاده بكمائن بالغه الاحكام‏!‏

وقبل
ان يدق مدفع الافطار يوم الحادي عشر من رمضان السابع من اكتوبر‏1973‏ اي
بعد نحو‏24‏ ساعه فقط‏,‏ كانت خمس فرق مشاه مصريه مدعومه بفرقتين مدرعتين
قد عبرت الي الضفه الشرقيه من قناه السويس‏...‏ وكانت معظم نقاط خط بارليف
قد سقطت في ايدي قواتنا‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44501

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

8

‏8 من شوال 1429 ه

الاربعاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏3‏)

كان
رايي ولايزال ان حرب السادس من اكتوبر عام‏1973‏ لم تبدا في هذا اليوم
الموافق العاشر من رمضان‏,‏ وانما بدات قبل ذلك بست سنوات‏,‏ ومن ثم كان
المسمي الدقيق لها انها حرب السنوات الست‏.‏

والذي يدعوني الي
القول بذلك ان من يراجع مسيره هذه السنوات الست من يونيو‏1967‏ الي
اكتوبر‏1973‏ سوف يتاكد له ان العظمه الحقيقيه لشعب مصر تجلت في الايام
السوداء المريره لنكسه يونيو‏1967,‏ عندما خرجت الجماهير ترفض الاستسلام
للامر الواقع‏,‏ وتعطي تفويضا للرئيس عبدالناصر بان يبدا عمليه اعاده بناء
القوات المسلحه‏,‏ واعداد الدوله للحرب لان هذا ليس وقت الحساب والمساءله
عما حدث‏.‏

والذين عاشوا هذه المرحله الصعبه من تاريخ الوطن
يتذكرون انه مع صدور قرارات القائد الاعلي للقوات المسلحه باعاده تنظيم
القياده العامه في‏11‏ يونيو‏1967‏ بدات مصر خطوتها الاولي نحو مشوار
العبور الكبير‏,‏ والدليل علي ذلك انه بعد‏3‏ اسابيع فقط من وقف اطلاق
النار في‏10‏ يونيو‏1967‏ وقعت معركه راس العش علي الضفه الشرقيه للقناه
في منطقه جنوب بورفواد عندما حاولت قوه اسرائيليه مدرعه التقدم شمالا
للوصول الي بورفواد فتصدت لها قوه محدوده من رجال الصاعقه المصريه‏,‏
ومنعتها من تحقيق هدفها لكن الاهم من ذلك ان شجاعه وبساله رجال الصاعقه
كانتا بمثابه اول شمعه تضيء وسط ظلام الهزيمه‏,‏ لتبدد سحب الياس‏,‏ وتفتح
ابواب الامل‏,‏ وتعيد الثقه الي العسكريه المصريه التي ظلمتها ظروف سياسيه
لاذنب لها فيها‏.‏

وبعد اسبوعين فقط من معركه راس العش‏,‏
وبالتحديد في‏14‏ يوليو‏1967‏ قامت مجموعات من الطائرات المصريه بشن سلسله
من الهجمات ضد التشكيلات المدرعه الاسرائيليه شرق قناه السويس لكي تعلن
للجميع ان الضربه الجويه الغادره‏,‏ التي لحقت بطائراتنا ومطاراتنا
صباح‏5‏ يونيو‏1967‏ لم تفت في عضد نسور الجو المصريين‏,‏ وان الادعاء بان
هذه القوات لن تقوم لها قائمه قبل عشرات السنين ليست سوي فريه ضمن مسلسل
الحرب النفسيه التي كثفت اسرائيل من هجماتها لنشر اجواء الياس والاحباط من
جدوي الصمود ومحاوله اعاده البناء‏.‏

وبعد‏19‏ اسبوعا فقط من معركه
راس العش‏,‏ وبالتحديد في‏21‏ اكتوبر‏1967,‏ شهدت مياه البحر الابيض
المتوسط اعظم اعمال البطوله لقواتنا البحريه عندما نجحت زوارق الطوربيد
المصريه في ضرب واغراق المدمره الاسرائيليه ايلات امام سواحل بورسعيد‏,‏
وسجلت البحريه المصريه بذلك سبق وشرف اول استخدام للصواريخ في المعارك
البحريه‏,‏ ودفعت بمراكز الدراسات الاستراتيجيه في العالم الي مراجعه
العديد من نظريات القتال البحري‏.‏

باختصار شديد اقول‏:‏ ان الشهور
السته الاخيره من عام‏1967‏ التي اعقبت نكسه‏5‏ يونيو كانت ملحمه شعب وجيش
من اجل رفض الهزيمه‏,‏ واثبات القدره علي تحدي الغرور العسكري لاسرائيل‏,‏
برغم الجرح المعنوي العميق‏,‏ برغم عدم كفايه الاستعداد القتالي‏.‏

وهكذا دخلت مصر بوابه عام‏1968‏ من ارضيه جديده تبعث علي الامل‏,‏ وتفتح الابواب امام الرجاء المنتظر في رد الاعتبار‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44502

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

9

‏9 من شوال 1429 ه

الخميس

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏4‏)

علي
امتداد عام‏1968‏ كانت معارك الدفاع النشط‏,‏ التي لجات اليها قواتنا
المسلحه لازعاج القوات الاسرائيليه من خلال قصف مدفعي مركز ومحسوب بكل
الدقه‏,‏ ومتواز مع برنامج طموح لاستكمال اعاده بناء التشكيلات
العسكريه‏,‏ وقد نجحت هذه المرحله‏,‏ التي استمرت حتي مارس‏1969‏ في تجاوز
هدفين اساسيين حددتهما القياده العامه للقوات المسلحه‏,‏ وهما اجتياز
مرحله النقاهه النفسيه والبنيويه لقواتنا المسلحه مما اصابها في حرب
يونيو‏1967,‏ ورفع كل انقاض وبقايا هذه الحرب لكي يكون المسرح جاهزا
للبناء الجديد‏.‏

ومع حلول شهر مارس عام‏1969‏ بدات اخطر مراحل حرب
الاستنزاف‏,‏ وكان ابرز عناوينها المضيئه استشهاد البطل الفريق عبدالمنعم
رياض رئيس هيئه اركان حرب القوات المصريه في خط المواجهه الامامي علي حافه
قناه السويس في موقع المعديه رقم‏6‏ بمنطقه الاسماعيليه يوم‏9‏ مارس‏1969.‏

وللحقيقه
وللتاريخ فان حرب الاستنزاف كانت حربا حقيقيه وشرسه‏,‏ واستمرت نحو‏18‏
شهرا‏,‏ حيث توقفت ليله‏8/7‏ اغسطس‏1970‏ بموجب الترتيبات الخاصه بمبادره
وزير الخارجيه الامريكي وليم روجرز‏,‏ وبعد ان كانت مصر قد انجزت اهم
واخطر متطلبات الاستعداد الجاد لحرب اكتوبر‏,‏ واعني به تحريك حائط
الصواريخ المضاده للطائرات الي حافه قناه السويس‏.‏

ان حرب
الاستنزاف كانت بمثابه الاعداد المعنوي والقتالي الصحيح‏,‏ الذي مكن
المقاتلين المصريين من استعاده ثقتهم بانفسهم ليس بدروس وخطب معنويه تلقي
عليهم‏,‏ وانما من خلال مواجهات ميدانيه مباشره كشفت عن زيف اسطوره الجندي
الاسرائيلي‏,‏ الذي لايقهر كاحدي مجموعات الاساطير‏,‏ التي استهدفت الحرب
النفسيه الشرسه زرعها في النفوس والعقول العربيه بعد يونيو‏1967.‏

كانت
حرب الاستنزاف هي البيئه‏,‏ التي انجزت عنصر التطعيم القتالي‏,‏ الذي
اكتسبه المقاتل المصري من سلسله مواجهات متتاليه‏,‏ جعلت منه بعد ذلك
المفاجاه الكبري في ساعات العبور الاولي‏,‏ التي تفوقت علي جميع مفاجات
الخداع والتسليح‏.‏

ثم ان حرب الاستنزاف كانت بالنسبه لجهاز
الاستخبارات العسكريه والاستطلاع بمثابه كنز ثمين ساعد علي توفير بنك
معلومات لايقدر بثمن حول عناصر القوه‏,‏ والضعف لدي العدو‏,‏ واظن ان هذه
المعلومات المخابراتيه كان لها دور كبير في كل عناصر بناء خطه الحرب
والعبور يوم‏6‏ اكتوبر‏1973.‏

باختصار انها الحرب‏,‏ التي ساعدت
علي تاكيد صحه المعدن الصلب لشعب مصر من ناحيه‏,‏ وساعدت جيش مصر علي
اعاده اكتشاف ذاته من ناحيه اخري‏!‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44503

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

10

‏10 من شوال 1429 ه

الجمعه

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

في
غمره الاحداث المتتاليه التي شغلتنا خلال الايام الاخيره من شهر رمضان وما
اعقبها من احتفالات عيد الفطر المبارك ثم احتفالات نصر اكتوبر المجيد لم
تسمح الظروف بالتوقف امام خبر اوردته وكالات الانباء حول اقامه حفل‏,‏
افطار رمضاني للجاليه المصريه داخل مقر البرلمان الايرلندي في مدينه
بلفاست‏,‏ وبمشاركه نائب رئيس الوزراء الايرلندي جيفي دولاندسون‏,‏ الذي
القي كلمه اكد فيها اعتزازه بالاسلام كدين سماوي‏,‏ واعرب عن دهشته من
محاولات التشويه المتصاعده منذ احداث‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ موكدا ان هذا
الحفل يعد بمثابه رد اعتبار للاسلام والمسلمين‏.‏

والحقيقه ان هذا
الحدث ينبغي التوقف امامه‏,‏ خصوصا ان عمده بلفاست كان راعيا اساسيا للحفل
الذي شهد لاول مره اداء صلاه المغرب داخل مقر البرلمان الايرلندي بعد رفع
الاذان في جو روحاني وايماني استحوذ علي اعجاب المشاركين في الحفل من
ممثلي المجتمع المدني والبرلمانيين الايرلنديين‏.‏

ان ما حدث يمثل
رساله الي الجميع لوقف نزعات التعصب والتطرف‏,‏ التي تسئ للاديان جميعا
وتتصادم مع دعوتها الي الحب والتسامح‏,‏ ونبذ الفرقه والضغينه باعتبار ان
الجميع يعبدون الها واحدا‏.‏

واذا كانت التحيه واجبه للحكومه
الايرلنديه ولعمده بلفاست علي هذه المبادره فان المهم هو كيفيه البناء
عليها من اجل ان يتحول هذا الحفل الي ارضيه صلبه مشتركه للحوار بين
الثقافات والحضارات والاديان باتجاه تعزيز خطوات التقارب وازاله كل اسباب
التنافر‏.‏

ان المساله في اعتقادي اكبر من ان ينظر اليها علي انها
عمل من اعمال المجاملات البروتوكوليه ومن ثم فان المسئوليه تقع علينا في
المقام الاول من اجل ان تمثل بعثات الدعاه الموفدين من الازهر الشريف الي
مختلف دول العالم خلال الشهر الفضيل قوافل للتنوير الفكري والروحاني بحيث
تعكس في خطابها وسلوكياتها الصوره الصحيحه‏,‏ التي تليق بالاسلام
والمسلمين‏,‏ التي يختصرها البعض في موائد الطعام والشراب‏.‏

ومن
الموكد ان وجود جاليه مصريه مستنيره في ايرلندا كان عاملا اساسيا في انجاح
هذه المبادره التي ينبغي ان تكون مرشدا ونبراسا لكل الجاليات المصريه في
الخارج وبالذات في الغرب الاوروبي من اجل تصحيح الصوره الذهنيه عن الاسلام
والمسلمين في هذه المجتمعات‏,‏ التي تتعرض منذ سنوات لاكبر عمليه تحريض
متعمد وخبيث‏.‏

وفي اعتقادي اننا بادوات العقل والحكمه وبمنهج
العلم والايمان‏,‏ الذي ينبغي ان تتسلح به جالياتنا في الخارج يمكن لنا ان
نحاصر دعاه التحريض‏,‏ وان نهزم دعاوي العداوه والصدام بما نقدمه من نماذج
حيه لسماحه الاسلام قولا وسلوكا‏!‏

‏......‏

وغدا نستانف من جديد رحلتنا مع نصر اكتوبر المجيد‏.‏

44504

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

11

‏11 من شوال 1429 ه

السبت

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( 5) ‏

من
الموكد ان الحديث الصريح عن حتميه اقدام مصر علي الحرب لكسر جمود الموقف
الناجم عن هزيمه يونيو‏1967‏ سعيا الي تغيير ارقام المعادله بما يهيئ لنا
امكان الذهاب الي اي حل سياسي قد ظهرت اشاراته وبوادره مع بدايه النصف
الثاني من عام‏1972‏ حيث كان قد مضي علي وقف اطلاق النار طبقا لترتيبات
مبادره وليام روجرز وزير الخارجيه الامريكيه ما يقرب من عامين كاملين دون
ان تبدي اسرائيل استعدادا لتغيير مواقفها المتشدده‏.‏

ولعل من
الانصاف ان يقال اليوم‏:‏ ان غالبيه الشعب المصري والامه العربيه بمن فيهم
قيادات مسئوله لم يفهموا سر اقدام الرئيس الراحل انور السادات علي انهاء
مهمه المستشارين السوفييت في مصر خلال شهر يوليو عام‏1972‏ سوي انه دليل
علي استبعاد خيار الحرب في حين ان الرجل كان يهدف الي عكس ذلك تماما وكانت
هذه الخطوه هي اول واهم ورقه في ملف الخداع الاستراتيجي استعدادا لحرب
اكتوبر‏1973...‏ وايضا فانه عندما استضاف الرئيس السادات اجتماع المجلس
الاعلي للقوات المسلحه في منزله بالجيزه في‏24‏ اكتوبر عام‏1972‏ توقف
الكثيرون عند التفاصيل الكثيره لوقائع هذا الاجتماع وما اعقبه من قرارات
لحقت بالقياده العامه للقوات المسلحه في حين ان الهدف الاساسي كان اعطاء
اشاره صريحه لقاده القوات المسلحه بان الحرب لم تعد فقط خيارنا وانما باتت
قدر مصر وقدر الامه العربيه‏.‏

وعلي مدي عام كامل تقريبا ابتداء
من‏24‏ اكتوبر عام‏1972‏ وحتي‏6‏ اكتوبر عام‏1973‏ كانت جميع الافرع
الرئيسيه للقوات المسلحه المصريه تعمل في اتجاه واحد وتحت اقصي درجات
السريه والكتمان من اجل الاستعداد للحرب في الوقت الذي تقرره القياده
السياسيه بناء علي مقترحات هيئه العمليات التي كان يراسها انذاك اللواء
محمد عبدالغني الجمسي وعلي ضوء التنسيق مع سوريا الذي بلغ ذروته باجتماع
سري للمجلس الاعلي المشترك للقوات المسلحه المصريه السوريه في مكتب قائد
القوات البحريه المصريه بالاسكندريه يومي‏23,22‏ اغسطس عام‏1973‏
وبمشاركه‏13‏ شخصا فقط من كبار قاده القوات المسلحه في البلدين ابرزهم
رئيسا هيئتي الاركان ورئيسا هيئتي العمليات ورئيسا جهازي المخابرات
العسكريه‏.‏

وفي اجتماع الاسكندريه الذي احيط باقصي درجات السريه
ولم تستطع اي جهه استخباريه في العالم ان ترصده جري اقرار الموعد النهائي
للحرب وهو يوم السادس من اكتوبر العاشر من رمضان الساعه الثانيه ظهرا
استنادا للدراسه التفصيليه القيمه التي حواها كشكول المشير الجمسي حول
افضل التوقيتات الملائمه لمصر وسوريا واسوئها بالنسبه لاسرائيل‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏...‏

44505

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

12

‏12 من شوال 1429 ه

الاحد

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( 6) ‏

خلال
الاجتماع السري والمهم بالاسكندريه خلال شهر اغسطس عام‏1972,‏ والذي جمع
بين القيادتين العسكريه والامنيه في كل من مصر وسوريا‏,‏ جري اول اتفاق
مبدئي بين الطرفين علي حتميه الذهاب الي الحرب ضد اسرائيل خلال عام‏1973‏
كما جري التوافق علي ضروره مراعاه الظروف المناخيه للجبهه السوريه بحيث
لايتاخر موعد الهجوم عن شهر اكتوبر‏,‏ لانه مع بدايه شهر نوفمبر تتزايد
احتمالات تساقط الجليد علي هضبه الجولان‏,‏ ومن ثم فان المجتمعين في موتمر
الاسكندريه في شهر اغسطس‏1973‏ استقروا علي شهر اكتوبر لكسب عده اسابيع
اضافيه ولم يوخذ باقتراح شن الحرب في شهر سبتمبر‏.‏

وكان لابد ايضا
من اختيار افضل يوم يلائم القوات المصريه والسوريه في شهر اكتوبر‏,‏
واستقر الراي بعد مناقشات مستفيضه علي ان يوم السادس من اكتوبر العاشر من
رمضان هو افضل الخيارات‏,‏ لانه يوافق يوم العطله اليهوديه السبت ولان
القياسات العلميه اكدت فرق المنسوب بين المد والجزر في قناه السويس خلال
هذا الموعد يكون عند ادني درجاته‏,‏ الامر الذي ييسر من مهمه قوارب
العبور‏,‏ وتشغيل المعديات‏,‏ وانشاء الجسور‏,‏ علاوه علي انه في اليوم
العاشر من الشهر الهجري يكون القمر ساطعا في النصف الاول من الليل‏,‏
وبالتالي يساعد المهندسين العسكريين علي الانتهاء من اقامه الجسور في ضوء
القمر لتبدا بعدها عمليه عبور المدرعات مع الظلام‏,‏ عندما ينتصف الليل‏.‏

ولان
اسرائيل كان معروفا عنها انها تمتلك واحدا من اكفا اجهزه المخابرات بحكم
تعاونه الوثيق مع المخابرات الامريكيه ذات الامكانات الهائله كان لابد من
تعطيل قدرتهم علي معرفه نيات الهجوم لحرمان اسرائيل من ميزه المبادره
بتوجيه ضربه اجهاضيه استباقيه‏,‏ وهو ما كان محورا لبنود خطه الخداع
التكتيكي والاستراتيجي علي جميع المستويات العسكريه والاعلاميه
والدبلوماسيه‏.‏

وهنا لابد ان اشير الي القرار الحكيم الذي اتخذته
القياده العامه للقوات المسلحه المصريه خلال الاشهر السته الاخيره‏,‏ التي
سبقت حرب اكتوبر بامتناع قوات الدفاع الجوي عن الاشتباك مع طائرات
الاستطلاع الاسرائيليه شرق القناه‏,‏ الا اذا حاولت اختراق العمق
المصري‏,‏ وكان وراء هذا القرار هدفان يدعمان خطه الخداع وهما‏:‏

ان
التحركات المصريه غرب القناه‏,‏ واغلبها مضلل‏,‏ ويتم في نطاق خطه
الدفاع‏,‏ سوف تزيد من ارتباك وحيره الاسرائيليين‏,‏ وعجزهم عن فهم النيات
الحقيقيه لقواتنا‏,‏ خصوصا بعد تكرار لجوء اسرائيل لتعبئه قواتها ثم يتضح
لها الامر في النهايه ان المساله مجرد تحركات وتدريبات روتينيه‏.‏

ايهام
القياده الاسرائيليه بان اي تحركات تقوم بها القوات المصريه غرب القناه
هدفها تنشيط القوات واخراجها من الخنادق منعا للملل والاعتقاد بانه لو
كانت هناك نيات مصريه حقيقيه لبدء الحرب لما سمحت للطائرات الاسرائيليه
بان تمارس عمليات الاستطلاع‏,‏ وهي تحلق شرق القناه يوميا دون ان تتعرض
لها شبكه الدفاع الجوي المصري‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44506

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

13

‏13 من شوال 1429 ه

الاثنين

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( ‏7‏ ) ‏

اعتقد
ان كل المهتمين بدراسه وتحليل تاريخ الحروب خصوصا في العصر الحديث‏,‏ من
كبار الخبراء والمحللين الاستراتيجيين علي مستوي العالم اكثر الناس فهما
وادراكا للمعجزه الكبري التي صنعها ضباط وجنود القوات المسلحه المصريه
بعبورهم قناه السويس بهذه الدرجه من السرعه والجساره وقله الخسائر البشريه
قياسا علي ماهو معروف في قواعد العلوم العسكريه بان عبور الموانع المائيه
كان ولايزال من اشق العمليات واعقدها واكثرها احتياجا للمزيد من التضحيات
البشريه‏..‏ فما بالنا اذا كان المانع المائي هو قناه السويس الذي يفوق كل
ما سبقه من موانع مائيه في سجل الحروب التاريخيه‏.‏

ان قناه
السويس‏,‏ باعتراف كل الخبراء المحايدين الذين كانوا يحذرون مصر من مخاطر
العبور بعمليه عسكريه واسعه كانوا يستندون الي مجموعه حقائق لايمكن
التشكيك فيها ولم يكن لديهم علم بان القياده المصريه قد درستها ووضعتها في
الحساب بعد ان وفر العقل والفكر المصري وسائل واليات التعامل مع هذه
المصاعب التي تنبعث منها تلك التحذيرات‏.‏

كانت هناك ظاهره المد
والجزر حيث يختلف منسوب المياه في القناه تبعا لارتفاعها وانخفاضها في
اليوم الواحد عده مرات‏,‏ ويبلغ فارق المنسوب نحو مترين في منطقه جنوب
القناه قرب ميناء السويس‏.‏

وكانت هناك ايضا مشكله سرعه التيار
واتجاهه حيث تتميز القناه بشده التيار وسرعته‏,‏ والتي تبدا من‏18‏ مترا
في الدقيقه في القطاع الشمالي وتصل الي‏90‏ مترا في الدقيقه في القطاع
الجنوبي‏..‏ والاصعب والاخطر من ذلك ان اتجاه التيار يتغير دوريا كل‏6‏
ساعات من الشمال الي الجنوب وبالعكس‏.‏

ثم ان قناه السويس كانت
تنفرد عن سائر الممرات والموانع المائيه في العالم بانها ذات شاطئ شديد
الانحدار ومغطي بستائر اسمنتيه وحديديه راسيه تمنع نزول وصعود المركبات
البرمائيه الا بعد توفير تجهيزات هندسيه دقيقه ومسبقه‏.‏

وايضا فان
قناه السويس‏,‏ التي يتراوح عرضها بين‏220,180‏ مترا ويصل طولها الي‏175‏
كيلو مترا يبلغ عمقها ما بين‏16‏ و‏18‏ مترا وينخفض سطح المياه فيها عند
حافه الشاطئ بنحو مترين الامر الذي يتعذر معه اتمام اي عمليه عبور لاطفوا
وخوضا ولاسيرا علي القاع‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44507

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

14

‏14 من شوال 1429 ه

الثلاثاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏( 8‏ ) ‏

فضلا
عن كل الخصائص الطبيعيه التي عددتها في مقالي امس عن قناه السويس كمانع
مائي صعب فان الاسرائيليين عمدوا الي تحويلها الي مايشبه السد المنيع‏,‏
الذي يدفع مصر الي التفكير الف مره في مخاطر المغامره بالعبور‏,‏ وذلك
باقامه ساتر رملي يزيد ارتفاعه في بعض المناطق علي‏20‏ مترا‏,‏ ويلامس
حافه القناه مباشره بزاويه ميل تزيد علي‏45‏ درجه‏,‏ وفي داخل هذا الساتر
وفوق قمته والي الخلف منه شيدت عده قلاع حصينه‏,‏ هي التي اصطلح علي
تسميتها باسم خط بارليف‏.‏

وهنا تفتق ذهن المخطط المصري باتجاه البحث عن عمليه عبور غير تقليديه بكل مافي الكلمه من معان‏!‏

لقد
وضع المخطط المصري في اعتباره ان المرحله الاولي لاقتحام القناه بجحافل
العبور سوف تكون اصعب واخطر المراحل بالنسبه لنا‏,‏ واسهلها وايسرها
بالنسبه للعدو المتمركز داخل حصونه المطله علي طول القناه‏.‏

كان
لابد من اعداد الجندي المصري لكي يكون مستعدا لتسلق الساتر الترابي بعد
وصول القوارب المطاطيه الي حافه الشاطئ الشرقي للقناه‏,‏ وتاهيل نفسه
للقتال مع مدرعات العدو لمده لاتقل عن‏6‏ ساعات قبل ان يصله دعم الدبابات
والاسلحه الثقيله المصريه فور الانتهاء من انشاء كباري العبور‏.‏

وكان
محتما ان يتم اقتحام قناه السويس واعتلاء حصون خط بارليف بالمواجهه‏,‏
وليس وفق قواعد العلوم العسكريه‏,‏ التي تحبذ مهاجمه المواقع الحصينه
بالالتفاف حولها حيث لايوجد لدي قواتنا اي خيار اخر يمكن به تفادي خط
المياه‏,‏ او خط بارليف‏,‏ او الالتفاف حول هذه الشبكه الرهيبه من
التحصينات المدفونه في الساتر الترابي‏.‏

وكان علي جنود المشاه‏,‏
الذين سيعبرون باسلحتهم الخفيفه‏,‏ ان يباغتوا المتحصنين في خط بارليف‏,‏
وان يصدوا الضربات المضاده‏,‏ التي ستشنها المدرعات الاسرائيليه‏,‏ وان
ينشروا اعلام مصر فوق كل نقطه تصل اليها اقدام قواتنا‏.‏

وقبل كل
هذا كان لابد من اعداد الجندي المصري لكي يكون قادرا علي الوصول سليما هو
وسلاحه الخفيف الي الضفه الشرقيه للقناه‏,‏ وان يكون مدربا علي تسلق
الساتر الرملي المرتفع‏.‏

وللانصاف فان ابطال العبور الذين نفذوا
المرحله الاولي‏,‏ صنعوا عملا ليس له مثيل في سجل الحروب‏,‏ ويعتبر ضربا
من الاعجاز البشري‏,‏ حيث جاء الاداء بافضل مما كان مرسوما علي الورق في
خطه العمليات‏.‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44508

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

15

‏15 من شوال 1429 ه

الاربعاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏9‏)

خلال
السنوات الست التي تفصل بين نكسه يونيو‏1967,‏ وملحمه العبور العظيم في
السادس من اكتوبر عام‏1973,‏ تفجرت كل طاقات الابداع واحتشدت جميع الخبرات
الكامنه في جوف شعب مصر العظيم لتنصهر في بوتقه واحده افرزت اراده قويه
استمدت حرارتها من حسن التخطيط وجديه الاستعداد لليوم الموعود‏!‏

ولعل
قصه العقل المصري مع الساتر الترابي الرملي الرهيب الذي اقامته اسرائيل
علي طول الشاطئ الشرقي لقناه السويس‏,‏ ليكون بمثابه سد منيع يعيق اي
محاوله مصريه لعبور القناه‏,‏ تمثل نموذجا حيا لما كان يواجه قواتنا
المسلحه من تحديات قبل مجرد التفكير في اقتحام قناه السويس عنوه‏.‏

وربما
زاد من حجم التحدي‏,‏ الذي شكله الساتر الترابي المدعم بحصون خط بارليف‏,‏
وحقول الالغام ومصاطب الدبابات‏,‏ ونطاقات من الاسلاك الشائكه‏,‏ ان
الخبراء العالميين‏,‏ الذين استشارتهم مصر وفي مقدمتهم الخبراء السوفيت
اجمعوا علي ان الوسيله الوحيده لازاله الساتر الرملي هي استخدام قنبله
نوويه‏,‏ ليست في حوزه مصر‏,‏ وحتي لو كانت تملكها فانها لاتقدر علي
استخدامها في ضوء الاحكام والموازين الدوليه‏.‏

كان لابد من
استنباط حل مصري صميم يعتمد علي الجهود والامكانات الذاتيه‏,‏ ويسمح علي
الاقل بفتح ثغرات في هذا الساتر عند مواقع منتقاه علي طول خط المواجهه‏!‏

وهكذا
ولدت فكره استخدام مياه قناه السويس في تجريف الساتر الترابي في الاماكن
المحدده باستخدام طلمبات عاليه القدره‏,‏ يتم تثبيتها علي زوارق خفيفه
وضخها بواسطه مدافع المياه بقوه اندفاع هائله علي الاماكن المحدده لفتح
الثغرات‏.‏

نشات الفكره التي لم ترق للكثيرين في البدايه باقتراح
طرحه المقدم باقي زكي يوسف خلال اجتماع في مركز القياده الرئيسي للجيش
الثالث الميداني‏,‏ خلال شهر مايو‏1969‏ في اثناء مناقشه الاستعدادات
اللازمه لعبور القناه عندما تصدر الاوامر بذلك من القياده السياسيه‏.‏

كان
صاحب الفكره قد استلهمها من تجربه عمله في بناء السد العالي حيث كان يتم
استخدام طلمبات المياه في تجريف الرمال الي قاع السد حيث جري نقل ملايين
الاطنان من الرمال بهذه الوسيله‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44509

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

16

‏16 من شوال 1429 ه

الخميس

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏10‏)

خلال
الاجتماع الذي اقيم في شهر مايو عام‏1969‏ بمركز القياده الرئيسي للجيش
الثالث الميداني والذي راسه اللواء اركان حرب سعد زغلول عبدالكريم يوسف
طرح المقدم باقي زكي تفاصيل اقتراحه‏,‏ فاوضح ان عمليه التجريف في السد
العالي كانت تبدا بسحب المياه من النيل الي الاماكن الطبيعيه لجبال الرمل
بواسطه الطلمبات شديده الاندفاع‏

مما يودي الي تجريف الرمال وسحبها
الي قاع السد العالي اما بالنسبه للساتر الترابي فان المطلوب هو سحب
المياه من القناه وضخها في مواجهه الساتر الترابي لتعود المياه التي تم
ضخها ذاتيا محمله برمال الساتر الترابي وبذلك يتم فتح الثغرات في الاماكن
المحدده والمنتقاه لبناء الكباري والمعديات‏.‏

وبعد اقل من اسبوع
كان الاقتراح قد جري تداوله تصاعديا علي كل مستويات القياده وعندما عرض
الامر علي الرئيس جمال عبدالناصر باعتباره القائد الاعلي للقوات المسلحه
ابدي انبهاره بالفكره لكنه اردف قائلا‏:‏ علينا قبل ان نحكم عليها ان نشرع
في تجربتها ومعرفه ما اذا كان يمكن استخدامها‏..‏ والمهم ان يجري ذلك تحت
اقصي درجات السريه بحيث يحظر تداول اي معلومات عنها الا في دائره محدوده
وضيقه للغايه‏.‏

وبعيدا عن الانظار‏..‏ وبعيدا عن الجبهه‏...‏ وفي
منطقه الخطاطبه حيث يمر فرع النيل وتحاذيه تلال من الرمال جرت بنجاح اول
تجارب مشجعه لنجاح فكره استخدام طلمبات المياه‏.‏

وهنا بدا التحدي
الاكبر‏...‏ كيف نوفر تلك النوعيه من الطلمبات ذات قوه الدفع الهائله دون
ان يشعر احد بالهدف من احضارها وبهذا العدد الكبير المطلوب فتحه من ثغرات
في الساتر الرملي‏.‏

كان لابد من حرمان اسرائيل من ان تحصل علي اي
معلومات حول النوايا المصريه ومن ثم جري ترتيب عمليه شراء هذه النوعيه من
الطلمبات تحت مسميات مختلفه وباسم اغراض مختلفه‏.‏

وامعانا في
الخداع فقد اقتصر امر الشراء من الخارج علي الطلمبات فقط في حين تولت
المصانع الحربيه مهمه توفير جميع المستلزمات الاخري المطلوبه للتنفيذ من
خراطيم ورشاشات وخلافه‏.‏

وعندما حانت ساعه الصفر يوم السادس من
اكتوبر عام‏1973‏ كانت القوات المسلحه قد استكملت بنجاح جميع التجارب
الميدانيه الشاقه التي اكدت صلاحيه الفكره للتنفيذ‏,‏ كما اكدت قدره
المهندسين العسكريين المصريين علي تحسين النتائج وتقليل الزمن اللازم لفتح
الثغرات بمعدل يفوق التقديرات المطلوبه من رئاسه الاركان‏.‏

وكان
اصدق ما قيل عن هذا الاقتراح انه قد يكون فضلا مضافا لافضال مشروع السد
العالي علي مصر‏,‏ لكن الاهم من ذلك هو انه بمثابه درس يوكد اهميه مشاركه
القوات المسلحه بكوادرها في المشروعات القوميه واكتساب الخبرات التي تضيف
بمثل ما تعطي‏!‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44510

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

17

‏17 من شوال 1429 ه

الجمعه

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏11 ‏)

كل
التقارير والدراسات العسكريه والاستراتيجيه الدوليه التي تناولت حرب
اكتوبر‏1973‏ اجمعت دون استثناء علي ان الدور الذي لعبه سلاح المهندسين في
حرب اكتوبر يعتبر واحدا من ابرز الادوار التي صنعت معجزه العبور باقل قدر
من الخسائر البشريه‏,‏ وفي اسرع وقت ممكن لحرمان العدو من الاستفراد
بطلائع العبور الاولي من قوات المشاه قبل ان تلحق بها الدبابات والاسلحه
الثقيله فور الانتهاء من انشاء كباري العبور‏.‏

لم تكن مهمه سلاح
المهندسين مقتصره علي انشاء الكباري فقط‏,‏ وانما كانت هناك مهام اخري
عديده اهمها فتح الثغرات في الساتر الترابي‏,‏ وازاله الالغام المحيطه بخط
بارليف‏,‏ وهو ما تطلب جهدا خارقا‏,‏ خصوصا في الاسابيع الخمسه التي سبقت
ساعه الصفر يوم‏6‏ اكتوبر‏,‏ ودون ان يتمكن العدو من رصد هذا الجهد الجبار
الذي جري انجازه تحت مظله من خطه خداع هندسيه بارعه‏.‏

ولعل من بين
اكثر اسرار حرب اكتوبر التي لم يكشف النقاب عنها ان سلاح المهندسين كان هو
السلاح الوحيد الذي تتلقي غرفه عملياته صوره بالكربون من بلاغات الجيوش
الميدانيه الي غرفه العمليات الرئيسيه في المركز رقم‏(10)‏ في نفس اللحظه
لان المهام الحقيقيه لسلاح المهندسين كانت مرتبطه بسير العمليات ولاتحتمل
التاخير‏,‏ ولو لدقيقه واحده عن موعدها‏.‏

واذا كان القتال قد بدا
فعليا في الساعه الثانيه وخمس دقائق من بعد الظهر بالضربه الجويه الاولي
التي اعقبها مباشره قصف مدفعي علي امتداد الجبهه لكي تبدا الموجات الاولي
لخمس فرق مشاه وقوات قطاع بورسعيد في اقتحام القناه بدءا من الساعه
الثانيه وعشرين دقيقه فان صيحات الله اكبر التي كانت تدوي علي الجبهه دوت
بنفس الحماس في غرفه عمليات سلاح المهندسين عندما وصلتهم اول اشاره
بارتفاع العلم المصري وسقوط اول حصون خط بارليف في منطقه القنطره في تمام
الساعه الثالثه من بعد الظهر‏,‏ وبدء الكتائب البرمائيه في العبور من
منطقه البحيرات المره‏,‏ وكان ذلك ايذانا باقتراب ساعه الصفر للمهمه
الكبري لسلاح المهندسين‏.‏

وعندما كانت عقارب الساعه تشير الي
الرابعه وخمس واربعين دقيقه عصر يوم‏6‏ اكتوبر كانت تشكيلات‏75‏ فصيله من
المهندسين العسكريين قد عبرت القناه تحت غطاء نيران المدفعيه المصريه
لتبدا علي الفور ضخ المياه لفتح‏75‏ ممرا علي طول الساتر الرملي الممتد
علي الشاطئ الشرقي للقناه‏.‏

ولم تكن قد مضت سوي‏25‏ دقيقه فقط حتي
جاءت البشري الاولي‏,‏ بان المهندسين العسكريين قد نجحوا في تمام الساعه
الخامسه وعشر دقائق في فتح وتمهيد اول ممر في الجيش الثاني‏,‏ وهو الممر
رقم‏42‏ في نطاق الفرقه‏18‏ مشاه بقطاع القنطره‏..‏ وبعد ذلك جاءت البشري
الثانيه في نطاق الفرقه‏16‏ مشاه جنوب الاسماعيليه باعلان نجاح مهمه فتح
الممر رقم‏2‏ في تمام الساعه الخامسه و‏35‏دقيقه‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44511

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

18

‏18 من شوال 1429 ه

السبت

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

‏12‏

استكمالا
لحديث الامس عن الدور الرائع الذي لعبه سلاح المهندسين العسكريين في انجاز
ملحمه العبور يوم السادس من اكتوبر عام‏1973‏ يمكن القول انه وطبقا
للسيناريو المعد سلفا في خطه العمليات فانه بعد ان اكملت فصائل سلاح
المهندسين فتح الممرات تباعا بدات ارتال وحدات الكباري تتقدم من الخطوط
الخلفيه للجبهه علي الطرق المخفاه المحدده لها‏,‏ وراحت مئات من العربات
المحمله بمهمات الكباري واللنشات تتحرك علي عشرات الطرق في مجموعات‏,‏
وبفواصل زمنيه محسوبه بدقه‏.‏

وبعد ذلك بدات مهمه اسقاط البراطيم
ونزول اللنشات في مياه القناه من اجل تجميع المعديات والكباري‏,‏ ولم تفلح
كل محاولات العدو لتعطيل عمل المهندسين العسكريين المصريين رغم القصف
المستمر بحجم من النيران عن طريق المدفعيه والطيران وتحققت المعجزه الاولي
في الساعه الثامنه والنصف مساء يوم‏6‏ اكتوبر باكتمال انشاء اول كوبري
للعبور في قطاع الفرقه الثانيه مشاه بمنطقه الاسماعيليه ليتوالي بعد ذلك
نصب الكباري تباعا‏,‏ وهو ما مكن قواتنا‏,‏ وخصوصا في قطاع الجيش الثاني
من انجاز عبور مايزيد علي‏240‏ دبابه‏,‏ وجميع الاسلحه المضاده
للدبابات‏,‏ وجزء كبير من وحدات المدفعيه‏,‏ والدفاع الجوي عند راسي كوبري
الفرقه الثانيه مشاه قبل ان ينبلج نور فجر السابع من اكتوبر ثم تعزز ذلك
بعبور مماثل للمدرعات والمدفعيه‏,‏ والدفاع الجوي للفرقه‏16‏ مشاه في
الساعات الاولي من صباح‏7‏ اكتوبر‏.‏

ومع ان الامر اختلف بعض الشيء
في قطاع الجيش الثالث نتيجه تعثر عمليه فتح الممرات في الساتر الرملي الذي
كانت رماله توجد بها نسبه عاليه من الطفله التي جعلت عمليه تجريف المياه
شاقه وحولت ارضيه الممرات الي وحل تجاوز عمقه في بعض المناطق مايزيد علي
المتر فضلا عن تغيير منسوب المياه بسبب المد والجزر وتغير سرعه التيار
واتجاهه فان التاخير لم يدم طويلا واستطاع مهندسو الجيش الثالث انشاء
مجموعه الكباري صباح يوم‏7‏ اكتوبر بعد تضحيات غاليه نتيجه تركيز العدو
لهجماته الجويه‏,‏ ونيران مدفعيته علي الكباري في هذا القطاع‏.‏

لقد
كانت ملحمه عظيمه للمهندسين المصريين الذين حققوا المعجزه في زمن قياسي
رغم ان معظم الكباري اصيبت واعيد اصلاحها عده مرات‏,‏ وكان استشهاد العميد
اركان حرب احمد حمدي قائد الويه الكباري في قطاع الجيش الثالث‏,‏ وهو
يشارك افراد احد الكباري في اصلاحه هو العنوان الابرز للروح الجديده
للعسكريه المصريه في حرب اكتوبر‏.‏

وغدا نواصل الحديث

44512

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

19

‏19 من شوال 1429 ه

الاحد

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏13‏)

من
الموكد ان السريه والبراعه في تنفيذ خطه الخداع علي المستويين التكتيكي
والاستراتيجي كانا عاملين حاسمين في تضليل اسرائيل التي كانت تتباهي
بقدرتها علي سماع دبه النمله في كافه العواصم العربيه وبالدرجه التي
تجنبها دائما خطر المفاجاه‏.‏

ولان ملف الخداع مليء باسرار كثيره
فانني اكتفي اليوم بالاشاره الي واحده من اهم اوراق هذا الملف والتي سبقت
نشوب حرب اكتوبر ب‏22‏ساعه فقط وكان بطلها اللواء محمد حسني مبارك نائب
وزير الحربيه وقائد القوات الجويه الذي اجري اتصالا في حوالي الساعه
الرابعه من بعد ظهر يوم الجمعه‏5‏ اكتوبر عام‏1973‏ مع خمسه من كبار ضباط
القوات الجويه وكان مضمون حديث اللواء مبارك لهم‏:‏ امام كل منكم فرصه
ساعتان لتجهيز بيانات خاصه مطلوب احضارها معكم لانكم ستسافرون في مهمه عمل
عاجله الي ليبيا تستغرق اربعا وعشرين ساعه وستخطرون بموعد الاقلاع عند
تحديده بالضبط‏.‏

وبينما كان اللواء محمد حسني مبارك يتحدث مع خمسه
من كبار معاونيه علي الخط التليفوني الداخلي بقياده القوات الجويه كان
السكرتير العسكري لمبارك في الغرفه المجاوره يجري اتصالا بالملحق العسكري
المصري في طرابلس يبلغه بموعد وصول اللواء مبارك الي ليبيا‏.‏

وبالتوازي
مع هذين الاتصالين كان احد ضباط مكتب اللواء مبارك منشغلا في ذات اللحظه
بابلاغ الاشاره الرسميه التاليه لقائد احدي القواعد الجويه بمنطقه القاهره
تجهز طائره اللواء محمد حسني مبارك قائد القوات الجويه لسفره ومجموعه
قيادته الي ليبيا اليوم‏5‏ اكتوبر في تمام الساعه السادسه مساء‏..‏ قاعده
الهبوط طرابلس‏..‏ والعوده باكر‏..‏ تخطر الجهات المختصه‏..‏ ويتم عمل
التصديقات اللازمه‏..‏ ونوافي تمام الاستعداد‏..‏ انتهي‏.‏

وعلي
الفور دبت في القاعده الجويه حركه غير عاديه وقام قائد القاعده بتعيين
طاقم الطائره وابلاغ قائدها ليتولي اجراء الاتصالات اللازمه لتامين الرحله
وبينها الاتصال بالدفاع الجوي ومركز الطيران المدني لتحديد خط السير في
الممر الدولي وكل ما تتطلبه الرحله من اجراءات التامين المعتاده‏..‏ ولم
تكن قد انقضت ساعه كامله حتي قام قائد الطائره المكلف بالرحله بابلاغ
السكرتير العسكري للواء مبارك بتمام الاستعداد‏.‏

وبعد‏40‏ دقيقه
وفي تمام الخامسه واربعين دقيقه تلقي قائد الطائره المكلف برحله ليبيا
الاشاره التاليه من السكرتير العسكري لمبارك توجل ساعه الاقلاع مبدئيا مده
ساعتين ويصير تجديد تصريح الاقلاع للطائره تلقائيا كل ساعه‏..‏ انتهي‏.‏

وفي
الساعه الحاديه عشره وخمسين دقيقه من مساء نفس اليوم الخامس من اكتوبر
اجري السكرتير العسكري للواء حسني مبارك اتصالا بالملحق العسكري المصري في
طرابلس ليخطره بان الرحله تاجلت الي صباح باكر السادس من اكتوبر‏..‏ كما
بعث السكرتير العسكري للفريق مبارك اشاره مماثله لقائد الطائره المكلف
بالمهمه هذا نصها توجل الطلعه الي باكر السبت‏6‏ اكتوبر ويعمل ترتيب
الاقلاع الساعه العاشره‏..‏ انتهي‏..‏

وغدا نستكمل قصه الخداع‏!‏

44513

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

20

‏20 من شوال 1429 ه

الاثنين

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏14‏)

بمجرد
ان تلقي قائد الطائره‏,‏ المكلف بمهمه الذهاب الي ليبيا‏,‏ اشاره في
الحاديه عشره من مساء الجمعه‏5‏ اكتوبر تفيد بان اللواء محمد حسني مبارك
قرر ارجاء المهمه الي العاشره من صباح اليوم التالي السبت‏6‏ اكتوبر بدا
في عمل ترتيبات الحجز للموعد الجديد كما قام بابلاغ طاقم الطائره المعاون
له بالتوجه الي استراحه الطيارين للمبيت واخذ قسط من الراحه‏...‏ بينما
ابلغ السكرتير العسكري الضباط الخمسه الذين من المقرر ان يرافقوا قائد
القوات الجويه في رحله ليبيا بان عليهم الانصراف الي مكاتبهم لانجاز
اعمالهم التي كانت قد ارجئت بسبب هذه الماموريه المفاجئه‏.‏

وفي
الساعه التاسعه والنصف من صباح السبت السادس من اكتوبر يرسل السكرتير
العسكري الي قائد الطائره الاشاره التاليه‏:‏ تحديد موعد الاقلاع ليكون
الواحده والنصف من ظهر اليوم‏..‏ انتهي‏...‏ ومره اخري يتولي قائد الطائره
اجراءات التعديل وابلاغ كل جهات الاختصاص وفقا للدوره المعتاده دون ان
يفهم احد سر هذه التاجيلات‏!‏

وفي الساعه العاشره من صباح‏6‏
اكتوبر يبعث السكرتير العسكري لمبارك باشاره عاجله الي كبار ضباط قياده
القوات الجويه للاجتماع مع القائد في قاعه الاجتماعات بمركز القياده
الرئيسي في تمام الساعه الثانيه عشره والنصف ظهرا‏...‏ وعندما التام شمل
اجتماع اللواء مبارك بكبار ضباطه في الموعد المحدد فوجئ المجتمعون بان
قائدهم يوجه لهم كلمه موجزه تتضمن التلقين النهائي للمهمه التي سيجري
تنفيذها في الساعه الثانيه ظهرا‏,‏ وطلب اليهم ان يتوجهوا جميعا لاحتلال
اماكنهم في مركز العمليات الرئيسي القريب من مقر القياده‏...‏ واثناء
انصراف الحاضرين بعد انتهاء الاجتماع اقترب احد كبار الضباط الخمسه من
اللواء مبارك وساله‏:‏ وماذا عن ماموريه ليبيا؟‏...‏ فرد عليه قائلا‏:‏
وهل صدقت ايضا اننا كنا مسافرين فعلا‏...‏ اتفضل الي مكانك في الغرفه
الرئيسيه فورا‏!‏

وبينما كان اللواء مبارك قائد القوات الجويه عند
الساعه الواحده والنصف وهو الموعد المحدد للاقلاع يخطو باتجاه غرفه
العمليات الرئيسيه كان قائد الطائره المكلف بمهمه ليبيا علي الخط
التليفوني يسال عن مصير الرحله‏...‏ وباوامر من اللواء مبارك يرد عليه
ضابط عظيم عمليات الفرقه بالاتي‏:‏ الطلعه في موعدها‏..‏ احضر الطائره من
مكان الانتشار الي مكان كبار الزوار‏..‏ السيد قائد القوات الجويه في
الطريق اليكم‏.‏

وتمر الدقائق بينما اللواء مبارك يتصدر مجموعه
قيادته علي منصه القياده‏..‏ وتحين ساعه الصفر‏,‏ ومن ميكرفون امامه يعلن
باسم الله صدور الكلمه الكوديه لبدء تنفيذ الضربه الجويه والتي سمعها كل
قاده غرف العمليات بالقواعد الجويه المصريه بابتهاج‏,‏ اما في اسرائيل فقد
كان لهذه القصه صدمه مزدوجه داخل مقر المخابرات العسكريه في تل ابيب‏,‏
فقد تلقي الضابط المسئول خبرين مزعجين عند الثانيه ظهرا‏...‏ الطائرات
المصريه بدات هجوما كاسحا في سيناء‏..‏ والمهمه المنتظر ان يقوم بها قائد
القوات الجويه المصريه الي ليبيا قد الغيت‏!‏
وغدا نواصل الحديث‏..‏

44514

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

21

‏21 من شوال 1429 ه

الثلاثاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏15‏)

عندما
اقلعت طائرات الضربه الجويه الاولي باتجاه تنفيذ مهمتها في الساعه الثانيه
من بعد ظهر يوم السادس من اكتوبر‏,‏ سادت مركز العمليات الرئيسي للقوات
الجويه ولعده دقائق متصله حاله من الصمت والترقب‏,‏ بينما كان رجال
الاستماع العسكري يتابعون من خلال شبكه لاسلكيه خاصه احاديث الطيارين في
الجو ويتلقون تقارير عن اعمالهم‏.‏

في هذه اللحظات التاريخيه
والحاسمه من عمر الوطن ومصير الحرب‏,‏ كان اللواء محمد حسني مبارك قائد
القوات الجويه يدخل علي شبكه اعاده ارسال استقبال خاصه يتنصت لبلاغات
الطيارين واحاديثهم‏,‏ ويتدخل احيانا موجها ومهنئا‏!‏

وايضا كانت
هناك مجموعه كبيره من الضباط تجلس امام التليفونات لتلقي البيانات حسب
التوزيع المتفق عليه‏,‏ فلكل ضابط مجموعه من الطيارين مكلف بمتابعه سير
عملياتهم من خلال مصادر متنوعه لكي تتحول هذه المعلومات الي بيانات تظهر
تباعا علي لوحات كبيره امام قاعده القوات الجويه موضحا بها الاعداد
والانواع والاسماء الكوديه للتشكيلات‏,‏ حيث ان كل تشكيل قتالي له اسم
حركي موضوع علي لوحات خاصه في غرفه العمليات‏,‏ وكان الاسم الكودي يومها
هو صدام‏.‏

المنظر في غرفه عمليات القوات الجويه منظر مهيب‏...‏
انها خليه نحل تعمل في نظام بالغ الدقه‏,‏ وبحماس يعكس كل مظاهر النشاط
والهمه‏,‏ وفجاه تنفرج اسارير الجميع وتظهر الفرحه علي الوجوه منهيه حاله
الصمت والترقب بمجرد ان ظهرت بشائر الفرحه علي وجه قائد القوات الجويه
الذي التقط سماعه التليفون ليبلغ المشير احمد اسماعيل وزير الدفاع في مركز
العمليات الرئيسي للقوات المسلحه المركز رقم‏10‏ بان الضربه الجويه قد
نجحت في تنفيذ مهامها بكفاءه عاليه تفوق جميع التقديرات وفي اوقاتها
المحدده‏.‏

ويصدر قائد القوات الجويه التعليمات لمساعديه وهو
يهنئهم ويهنئونه علي هذا الانجاز العظيم‏...‏ ثم يترك مقعده الذي لم يبرحه
منذ ان بدات المهمه‏,‏ وحتي اطمان الي تمام تنفيذ المهمه لكي يثير الحماس
في نفوس الضباط‏,‏ وصف الضباط الموجودين داخل غرفه العمليات من خلال تفقده
العمل في جميع الاقسام‏.‏

ويتوقف اللواء مبارك امام لوحه الموقف
البري للجيوش‏,‏ وقد ظهرت علي اللوحه بيانات النجاح المذهل لعمليه العبور
علي امتداد الشاطئ الشرقي لقناه السويس الذي اصبح رجال المشاه يتحركون
عليه‏,‏ ويصل الحد الامامي لهم في بعض المناطق الي مايزيد علي كيلو متر من
شرق القناه‏.‏
وغدا نستكمل الحديث‏..‏

44515

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

22

‏22 من شوال 1429 ه

الاربعاء

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏16‏)

بعد
اقل من ساعه من الاطمئنان لنجاح الضربه الجويه الاولي وسط مشاعر الابتهاج
والشكر لله داخل غرفه عمليات القوات الجويه‏,‏ يدخل اللواء محمد حسني
مبارك علي شبكات التنصت المكلفه بمتابعه الاشارات الوارده الي او الصادره
عن مركز قياده العمليات الجويه الاسرائيليه في سيناء ويتصفح باهتمام اخر
اشاره تم التقاطها من احدي القواعد الجويه الاسرائيليه قبل لحظات نصها
كالتالي‏:‏ دمرت لنا احدي عشره طائره من بينها‏3‏ طائرات في الجو‏..‏
والممر الرئيسي تم تدميره‏..‏ يمكن استخدام الممر الفرعي‏..‏ افد عن اي
هدف يمكن اعتراضه‏.‏

وبعد اقل من دقيقه جري التقاط نفس الاشاره من
نفس القاعده الجويه الاسرائيليه‏,‏ ولكن مع اضافه جديده تقول‏:‏ اكرر‏..‏
المطار مغلق بالكامل لايمكن استخدامه لاثنتي عشره ساعه‏..‏ صواريخ الهوك
الموجوده في دائره المطار تم تدميرها‏..‏ موقف الدفاعات المحليه سيئ
للغايه‏.‏ وعلت وجه اللواء مبارك ابتسامه هادئه لانه يعلم ان القاعده
الجويه الاسرائيليه لن تتلقي اي رد من مركز قياده العمليات في سيناء الذي
تم تدميره بالكامل في الضربه الجويه الاولي قبل دقائق‏.‏

ولم يفهم
اغلب الموجودين في غرفه العمليات سر الابتسامه الهادئه علي وجه اللواء
مبارك الا بعد ان استمعوا اليه وهو يرد علي مكالمه تليفونيه وردت اليه من
رئيس الاستطلاع الجوي يستفسر فيها عن هذه الاشاره‏,‏ حيث قال له قائد
القوات الجويه بالحرف الواحد‏:‏ ليس في هذه الاشاره جديد‏..‏ المعلومات
التي وردت فيها قالها طيارونا فور عودتهم من الطلعه‏..‏ يحدد الموقف بدقه
بعد قراءه الصور الجويه التي التقطتها طائرات استطلاعنا ويعرض ذلك فورا‏.‏

كان
اللواء مبارك لحظتها في اوج مشاعر الارتياح والثقه بالنفس لانه كان يعلم
ان كل الذي يقراه علي اللوحات وكل مايتم التقاطه من اشارات هي اعمال سبق
التخطيط لها والتدريب عليها لكي تنفذ في مواعيدها تحت مظله من روح الفريق
الذي يميز اعمال القتال الجوي الناجح والمستند الي حسابات دقيقه ترتكز الي
الالمام بفنون التكتيك الجوي واساسيات البعدين الاستراتيجي والتعبوي‏,‏
استنادا الي اراده صادقه وليس مجرد اداء الواجب فقط‏.‏

لقد تحققت
المعجزه‏..‏ وفي اقل وقت ممكن تمكنت‏220‏ طائره مصريه من ان تنقض في هجوم
عاصف علي اهداف العدو الرئيسيه في سيناء لتدمر مراكز قياده الطيران
الرئيسيه والقواعد والمطارات التي تتمركز فيها بكثافه طائرات الفانتوم
والميراج وسكاي هوك ومراكز الاعاقه والشوشره الالكترونيه‏...‏ ومواقع
مدفعيه الميدان والمدفعيه المضاده للطائرات‏.‏ وفي دقائق قليله نجحت
الضربه الجويه الاولي في تعطيل محطات رادار العدو واحداث شلل وارتباك في
جميع مراكز القياده وتدمير صواريخ الهوك المضاده للطائرات علي منصاتها
ودفن اطقمها تحت الرمال‏.‏

ولعل اللحظه الخالده التي تابعها اللواء
مبارك وعلامات الارتياح تنطق بها قسمات وجهه هي تلك اللحظه التي كانت فيها
طائرات الضربه الاولي في طريق العوده غربا فوق خط بارليف وتلتقي بعشرات
الطائرات المصريه الاخري التي تطير علي ارتفاعات متوسطه وهي تتجه شرقا
لتسجيل وتصوير النتائج المذهله للضربه الجويه التي كانت مفتاح النصر‏.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44516

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

23

‏23 من شوال 1429 ه

الخميس

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏17‏)

من
الموكد ان قدره مصر علي استخلاص الدروس المستفاده من نكسه يونيو‏1967‏
كانت عاملا حاسما في نقد النفس والذات‏,‏ ادي الي بناء القدره علي تصحيح
الاخطاء واعاده بناء القوات المصريه المسلحه علي اسس قويه وراسخه‏.‏

لقد
تعلمنا من دروس النكسه ان القوات المسلحه لها مهمه اساسيه واحده هي
التدريب والاستعداد في فترات السلم والحرب علي حد سواء‏..‏ كما تعلمنا
ايضا ان العبره ليست بنوعيه او كميه السلاح‏,‏ وانما العبره بالرجال الذين
يحملون هذا السلاح‏,‏ وما يملكونه من كفاءه ومقدره واخلاص وانتماء‏.‏

وايضا
لقد تعلمنا من دروس النكسه ضروره دراسه العدو دراسه موضوعي‏,‏ه تشمل
تكتيكاته واساليبه القتاليه والدفاعيه والنفسيه قبل في واثناء المعركه‏,‏
وان ذلك يتطلب الاهتمام بابسط المعلومات عن العدو من ناحيه‏,‏ مع فرض اقصي
قدر من السريه والكتمان حول كل ما يخص قواتنا المسلحه‏.‏

والاهم من
ذلك كله اننا ادركنا حتميه وضع الرجل المناسب في المكان المناسب مع حشد كل
القوي الوطنيه والقوميه حشدا فعليا لمواجهه اي تحديات‏,‏ خصوصا انه قد ثبت
بما لايدع مجالا لاي شك ان اكثر من‏80%‏ من قواتنا المسلحه لم تتح لها
فرصه القتال في حرب‏1967,‏ وان المجموعات المحدوده من قواتنا التي اتيحت
لها فرصه القتال المتكافئ مع العدو مثل اللواء‏114‏ مدرع في منطقه جبل
لنبي‏,‏ واللواء‏11‏ مشاه في وادي العريش‏,‏ قد اثبتت قدره قتاليه
عاليه‏,‏ اعترف بها الاسرائيليون في مذكراتهم عن حرب يونيو‏1967.‏

لقد
ادركنا وعن يقين ان كل خطوه نخطوها‏,‏ وكل عمل نقوم به يجب ان يكون مبنيا
علي اساس سليم ومدروس واستنادا الي تخطيط علمي دقيق‏...‏ وادركنا ايضا ان
التدريب المعنوي يعتبر جزءا لايتجزا من التدريب العسكري‏,‏ وان التربيه
الروحيه لاتقل اهميه عن التربيه القتاليه‏,‏ بل انها ربما تسبقها‏,‏ علي
ضوء ما اتضح من اهتمام اسرائيل البالغ بالحرب النفسيه قبل وبعد وفي اثناء
المعركه العسكريه‏,‏ وهذا الاهتمام يصل الي حد القيام بعمليات خاصه بالغه
القذاره لرفع معنويات جنودها واثاره الياس والاحباط علي الجانب الاخر‏!‏

واظن ان القدره علي نقد النفس والذات واستخلاص العبر والدروس مما جري في يونيو‏1967‏ كانت هي اهم مفاتيح النصر في اكتوبر عام‏1973.‏

وغدا نواصل الحديث‏..‏

44517

‏السنه 133-العدد

2008

اكتوبر

24

‏24 من شوال 1429 ه

الجمعه

كل يوم
بقلم : مرسي عطا الله

(‏18‏)

اجدني
اليوم مضطرا الي كلمه اخيره في ختام هذه الخواطر‏,‏ التي يمكن ان يستمر
الحديث عنها الي موعد الذكري في العام المقبل‏,‏ ولكنني اكتفي بان اطرح
سوالا اجماليا هو‏,‏ ما الذي حدث يوم السادس من اكتوبر عام‏1973‏ ؟‏.‏

وجوابي
هو ان ما حدث كان شهاده لمصر كلها‏...‏ وكان شهاده لملحمه اعاده بناء
القوات المسلحه من جديد وقدرتها الفائقه علي الوقوف علي قدميها برغم جراح
الهزيمه عام‏1967.‏

ان ما حدث في اكتوبر‏1973‏ هو شهاده للجندي
المصري الذي استطاع في شهور قليله ان يستوعب احدث الاسلحه التكنولوجيه
التي جري تدريبه عليها‏..‏ كان شهاده للجبهه الداخليه التي اعطت بلا حدود
ووقفت بكل ما تملك تدعم وتشجع وتوكد ثقتها المطلقه في قواتها المسلحه‏...‏
كما انه كان شهاده عظيمه للقدره الكامنه داخل شعب مصر علي احداث
التغيير‏,‏ عندما يكون التغيير ضروره حياه وبقاء‏!‏

اننا ونحن نجري
اليوم تقويما امينا لحجم ما انجزناه قبل‏35‏ عاما‏,‏ لابد ان نستعرض
الواقع الذي كان يعكس اختلالا جسيما في موازين القوي والمناخ السائد
انذاك‏,‏ الذي كان يبعث علي الياس ويغذي دعوات الاحباط‏,‏ وان نتذكر ان
وطاه الاحساس بالخوف من بلوغ مرحله العجز عن اتخاذ القرار بشن الحرب كان
هاجس الجميع في العالم العربي خاصه‏,‏ في مصر التي عليها دائما مسئوليه
القرار ومسئوليه التنفيذ ايضا‏.‏

ان علينا ان نتصور كيف ان احاسيس
الخوف والعجز تبددت مع الساعات الاولي لملحمه العبور عندما اكد جنود مصر
البواسل انهم لم يعبروا فقط قناه السويس التي تعتبر اصعب حاجز مائي‏,‏
وانما عبروا حاجز الخوف‏,‏ وان هولاء الرجال العظام عندما اعتلوا المواقع
الحصينه لخط بارليف لم يحطموا حائطا من الحصون المنيعه وانما حطموا حائط
العجز‏.‏

لقد كانت ظهيره السادس من اكتوبر عام‏1973‏ ملحمه فداء
وعطاء اصابت الدنيا كلها بذهول مفاجئ واكسبت العسكريه المصريه احتراما
وتقديرا غير مسبوق‏!‏

وربما تكمن عظمه حرب اكتوبر في انها حطمت
معتقدات باليه واساطير وغيبيات واهيه في الجانب الاسرائيلي‏,‏ واعادت
اكتشاف كنوز كانت مدفونه وغائبه في الجانب العربي‏.‏

ولاشك في ان
مجرد نشوب الحرب علي جبهتين عربيتين مصر وسوريا في توقيت واحد كان بمثابه
رساله واضحه من العالم العربي لتل ابيب بان اكذوبه العجز العربي عن
التنسيق والتضامن والقدره علي اتخاذ القرار المشترك قد انتهت تماما‏...‏
ثم ان مشاهد اللحظات الاولي من المواجهه فضحت اكاذيب الدعايه الاسرائيليه
التي ظلت تروج لها منذ هزيمه يونيو‏1967,‏ بان الجندي العربي لايقوي علي
مواجهه الجندي الاسرائيلي‏,‏ فقد كان الاقتحام والاقدام والاستبسال من
جانب طلائع العبور المصريه لايواجه في معظم الحالات بغير التراجع
والارتداد‏,‏ ومحاولات الهروب والاختفاء خلف الحصون والمدرعات‏.‏

وفي المجمل العام كان ماحدث في‏6‏ اكتوبر‏1973‏ بمثابه اعلان واضح وصريح بسقوط اسطوره الجيش الذي لايقهر‏.‏

وكل عام ومصر في انتصارات متجدده‏!‏